«ليلة سقوط بغداد» من الابتذال التجاري... إلى الشعارات السياسية الضخمة

بعد عرضي همام حوت في دمشق خلال السنوات الثلاث الأخيرة «طاب الموت يا عرب» و«ضد الحكومة» هاهو في دمشق يقدم عرضه الثالث «ليلة سقوط بغداد» وبالرغم من أن للمهندس 15 عرضاً مسرحياً تقريباً قبل «طاب الموت يا عرب» إلاّ أنه لم يدخل إلى دمشق إلاّ مع هذا العرض، قادماً من حلب في تحول دراماتيكي في جماهيرية عروضه، بضوء أخضر دخل دمشق من أوسع أبوابها، مع حضور جماهيري كثيف، مدعوماًُ من العديد من الجهات المعروفة أول الأمر، ليستمر هذا الحضور الجماهيري حتى عرضه الأخير «ليلة سقوط بغداد»، ويصطف بقوة بجانب عروض المسرح التجاري في دمشق في عرض يطلق عليه في كل سنة «رسالة عشق يبثها إلى الوطن».

ليلة سقوط بغداد حسب بروشور العرض هي ليلة سقوط أوراق التوت وليلة بدت الحقيقة عارية ودميمة وليلة زفاف الخيانة، وبالنسبة للنقاد هي ليلة اختبار أدواتهم النقدية أمام عرض بالكاد تطلق عليه صفة المسرحي، فعلى أي أساس ستتم محاكمة مثل هذا العرض.

تعذيب يسمى مسرحاً كوميدياً بصيغة تجارية:

حتى لا يظلم العرض كون الميم في: ((م.همام حوت)) هي المهندس وليس الممثل ولا المخرج، فسنقوم باستثناء الجوانب الفنية من العرض: فإن نحن استبعدنا الأمور المتعلقة بالجانب الدرامي المعدوم تماماً في العرض الذي تبلغ مدته 3 ساعات ونصف والذي قام بكتابته المهندس مازن طه والدكتور المهندس: عمر خرشوم، والبعيد كل البعد عن أبسط أعراف وتقاليد المسرح المتوفرة في أسوأ عروض مسرح الشبيبة التي قدم لها عرض «ليلة سقوط بغداد» نقداً وتقريعاً.

وإذا قمنا بإبعاد الشكل الفني السيئ الذي تم فيه إخراج ومونتاج اللقطات التي ظهرت على شاشة للعرض في المسرح، وتضمنت مشاهد الحرب على العراق، بالإضافة إلى تسول المشاعر من خلال مجموعة من الأغاني والكلام المعلب والجاهز، بالإضافة إلى التخريب الموسيقي للكثير من الأغاني الجميلة.

وإذا نحن تجاوزنا الإسفاف والتكرار الممجوج في الجانب الكوميدي، الذي يقوم على موضوعة من الخطأ طرحها أساساً وهي اتخاذ سقوط عاصمة بلد موضوعاً للسخرية، وبذلك حقق مخرج العمل فتحاً مسرحياً تاريخياً، حيث لم يسبق لأحد أن تطرق إلى كل الدم المسفوك في أي بلد بطريقة كوميدية.  معتمداً أسلوباً في التهريج يقوم على التلاعب اللفظي في الكلمات بنفس الطريقة عند جميع الممثلين وفي كافة اللوحات، بعيداً عن أي ربط بين الشخصية وشكل النكتة، فالكل يتبع نفس الأسلوب طوال العرض. كأن يقول أحد الممثلين: مجزرة قانا، فيجيبه ممثل آخر: قانا وأخواتها، ويعلو الضحك على خشبة المسرح، أو على طريقة قول ممثل: جاييني اكتئاب، ممثل2: اكتئاب حياتي يا عين... إلخ من النكات الممجوجة والمكرورة. ليقوم في لوحة أخرى بمحاكاة ساخرة بين الجنس وبين الحرب على العراق. وفي النهاية يضفي النكهة الأقوى كوميدياً على المسرحية بنقد مباشر للأجهزة الأمنية وأدائها في نكت مكرورة وضعت معظمها في قالب هو الخروج عن النص مع العلم أن ما يسمح له قوله لا يسمح لغيره.

وإن نحن عملنا على تنحية الضعف والابتذال في الأداء لدى الغالبية العظمى من الممثلين الخمسة عشر الذين يقومون بالقفز والصراخ والخبط والضحك معتمدين المبالغة في ((الأداء)) -ونقول الأداء تجاوزاً-. وبالأخص أداء المهندس همام حوت الذي يعتمد طبقة صوتية مبتكرة وخاصة.

وإن غضضنا الطرف عن القبح، والفوضى والثرثرة البصرية التي تجلت بشكل كبير في السوقية المبالغ فيها في تصميم الأزياء وألوانها، دون أي مبرر كوميدي أو درامي،  كما تجلت أيضاً في الديكور المرتجل على عجل مع العلم أن مخرج العرض ينال الحصة العظمى من شباك التذاكر مما يخوله الحصول على ديكورات وأزياء أفضل من تلك التي قدمها، ولا نعتقد أن القيمين على العرض يتبعون مدارس مسرحية ترتبط بالتقشف على خشبة المسرح ذلك إن سمعوا بها قبلاً..

فإن نحن قمنا بتنحية كل تلك الجوانب فما الذي سنحصل عليه؟؟.. سنحصل على مجموعة من المقولات السياسية بمنتهى الخطورة، تقدم داخل هذا الشكل الفني المبتذل، تتضارب هذه المقولات فيما بينها وتتعاكس تارة، وتحمل الكثير من انفصام الشخصية لدى المؤدين وتنقله إلى الجمهور.

أنماط ورموز تقول الكثير:

عمل صاحب «طاب الموت يا عرب» على تقديم مجموعة كبيرة من الأنماط داخل عمله الجديد، وبالرغم من أن عملية التنميط في القوالب الكوميدية معروفة في تاريخ المسرح، فقد خرجت هذه الأنماط بشكل مسطح  وبالكثير من الأخطاء، تبدأ بشكل كتابتها وصولاً إلى الأداء، فظهرت مباشرة تقول ما لديها بشكل فج أحياناً ومتضارب أحياناً أخرى. فعلى سبيل المثال في لوحة من اللوحات قام بطل العرض بتأدية شخصية لبنانية تعيش في أميركا بشعر طويل أشيب، وبلكنة هي خليط بين الحلبية واللبنانية، يتحرك كالمخنثين أحياناً وكتاجر بذكورية عالية أحياناً أخرى، لكن السمة العامة لهذه الشخصية تظهره على أنه قَوّاد، يستضيف هذا اللبناني مجموعة من المعارضين المقيمين والمرتبطين امريكياً في بيته في الولايات المتحدة ليجري الحديث قبيل سقوط بغداد.. وفجأة ودون سابق إنذار نتيجة لاحتداد الحديث تتحول الشخصية من قواد إلى مناضل في حزب الله، وبذلك تعيش الشخصية حالة فصام، أم أن للعرض مقولات مستترة.

وفي مكان آخر يؤدي الحوت نفسه شخصية رجل كردي، اخترع نمطاً جديداً وفصلها على المقولة التي يريد أن يدلي بها، فهي مزيج بين كردي اسلامي أصولي تارة أو كردي ينتمي إلى التيارات اليسارية الراديكالية تارة أخرى، شخصية مثقفة في بعض الجمل، وجاهلة حتى الثمالة في أخرى، المواطن الغبي في بعض الأحيان.. والذي يلقطها على الطاير ويرمي بنكات تارة أخرى.. 

وفي لوحة بيت الزوجية، يتحول نمط الرجل الخائن إلى شريف الشرفاء، كما نلاحظ شكلاً نمطياً للمثقف في خطاب الحوت الذي عمل على تنميطه بشكل كلامي دون أن يرسمه كشخصية داخل العمل، ويرى أن المثقفين ابتعدوا عن الشارع ولم يبعدوا قسراً ليترك الشارع الثقافي خالياً، ويخلط في فهمه للمثقف بين المثقف المبعد والمثقف المقرّب وبين المبدع، وبين المبدع رغماً عن أنفنا، ويشكل منها نمطاً يقوم بمهاجمته في غير مكان.

شكل مخرج العرض أنماطه تبعاً لذائقته وفهمه وثقافته، فقد كانت هذه الأنماط تقول ما تقول وتناقضه في اللحظة التي تليها مباشرة دون التطرق إلى الإشكاليات السياسية في الكثير من الحوارات. 

ولم يستطع أي من الممثلين المحافظة على النمط أو الدور الذي يؤديه حتى نهاية اللوحة، وكانت التحولات (الدراما/تجارية) تجري داخل الشخصية بسرعة الضوء، دون أي مبرر سوى الكوميدية المبتذلة والمقولات المسطحة.  فجأة يتحول المعارض العراقي الخائن -حسب طرح الحوت- في أميركا إلى شخص وطني، ويتحول المعارض الليبي من المعارضة إلى نسخة عن معمر القذافي حاملاً كل مقولات القذافي الذي يعارضه، ويتحول سعودي لا هم له سوى النساء والكحول إلى منظر سياسي، بالإضافة إلى مقولات سياسية ضخمة تقدم على لسان كل الشخصيات «على سكرة» وتصب في خانة سورية رغم عدم وجود شخصية سورية في ((القعدة)). أما الممثلات والشخصيات التي أدينها فحدث ولا حرج.. 

المشكلة في الأنماط التي عمل المخرج على تقديمها هي التعميم، فظهر العرب في مسرحية الحوت على الشكل التالي: الكويتيون كلهم خونة، السعوديون كلهم مهوسون جنسياً، جميع الليبين في عقولهم لوثة،  وغيرها من التعميمات والمقولات... والحقيقة هذه «رسالة عشق» يبثها الحوت للوطن. 

الحرية والديمقراطية

قام صاحب «ضد الحكومة» في عرضه الجديد بتقديم نقد لمجموعة من الاصطلاحات والمفاهيم السياسية،  وفقاً لفهمه لهذه المفاهيم، ومنها الديمقراطية والحرية. ففي بداية العرض تظهر عائلة تخضع لسلطة أب مستبد ديكتاتور.. يسبب احتلال العراق و«الديمقراطية الأمريكية» القادمة هلعاً لدى أهل البناء، فيأتي ((اللواء)( رئيس البناء إلى أهل البيت ويخبرهم أن عهد الديمقراطية قد حل، والسبب أننا نريد أن نقطع على أمريكا إي طريق لتدخل إلينا بحجة إحلال الديمقراطية، فما هو شكل الديمقراطية التي طرحت في العمل، هي صورة مجتمع يعيش في حالة من اضمحلال الأخلاق واختفاء المحظورات، والانحلال الكامل، هذه هي صورة الديمقراطية في ذهن مخرج وكاتبي النص. فبعد حلول الديمقراطية، يحدث الابن أباه بغياب كامل لمفاهيم الأخلاق والتربية، والابنة تعيش حالة من الانفلات على كافة المستويات حتى يخال المرء أنها تحولت إلى عاهرة، والأم أيضاً، لا ضوابط ولا قوانين في البيت، هل هذه رؤية القائمين على العرض للديمقراطية، وهنا سؤال مهم للغاية: من يريد أن يسوق مفهوم الحرية بهذا الشكل، من يريد أن يصور الديمقراطية بهذه الطريقة؟!.

في داخل العرض تظهر مجوعة من اللطشات على المثقفين والمفاهيم التي يسوقونها، ويتناقشون حولها، ودور المثقف في المجتمع، ويتخذ منها موقفاً سلبياً مبنياً بشكل رئيسي على جهل كامل بهذه الطروحات، لكن ذلك لا ينفي أن يتعرف عليها، سواء اتفق مع هذه الطروحات أو اختلف معها فيما بعد. 

مفاهيم مغلوطة

في اللوحة ما قبل الأخيرة من العرض لوحة تمثل عيادة طبيب فيها مجموعة من الشخصيات تنتظر وصوله، شخصية كردية حلبية، وأخرى حلبية، وشخصية أرمنية، وشخصية من الساحل، لا أحد يعرف كيف بدأ الحوار ولا كيف تطور، هذا الحوار العبثي، لا يتطور يبقى ((مكانك راوح))، لا  يتطور درامياً أو كوميدياً، أما الهدف منه ومن تقديم هذه الأنماط تثبيت الاختلافات والانقسامات داخل المجتمع، هذه الانقسامات التي يثبتها في آلية تصويره للأنماط، دون أن نذكر الاجحاف في طريقة تصوير الشخصية الكردية في المشهد، والتي تحمل في ثناياها الكثير من المغالطات وتؤدي إلى الكثير من الأخطار. فالشخصية الكردية في العرض، تعود أصولها إلى كفر جنة، لا تريد أن تفعل شيئاً أمام مسلمة الحرب الأمريكية على سورية، فما الذي سيفعله الكردي في العرض في حال حصلت هذه الحرب، سيغادر إلى ضيعته ويجلس تحت شجرة زيتون ويشرب الشاي، حتى تنتهي الحرب، بهذه السطحية رسمت شخصية الكردي، وبما أنها أقرب إلى النمط فالتعميم في قراءتنا للمشهد أكثر من جائز. هل يرى همام حوت الأكراد بهذا المنظار، وفجأة نتيجة لحديث أبو محمد الشخصية الحلبية، يحدث الانقلاب الدراماتجاري لدى الشخصية الكردية التي تستذكر مآثر صلاح الدين، وغيره من الشخصيات الكردية التي أثبتت صلتها بالأرض طوال قرون من تاريخ المنطقة، إلاّ أن الربط مع الجانب البطولي، جاء في قالب كوميدي، مما جعل المقولة الأولى أكثر رسوخاً من التبريرات التي ألحقها الحوت فيما بعد، والجدير بالذكر أنه تم إلاحق الشخصية الكردية بالمشهد في مراحل لاحقة وفقاً لتطور الأحداث.

ضمن تركيبة هذا المشهد ربما كان في نية القائمين على العمل تثبيت مفهوم الوحدة الوطنية. فبعد مجموعة من الخطب الرنانة، نكتشف أن هناك شخصية بحاجة إلى التبرع بكلية حتى تعيش عندها يهب الجميع كي يتبرعوا له بكلاهم، كدليل على الوحدة الوطنية، لكن عن أي وحدة يتحدثون.. بعد أن أعملت مقصاتهم في جسد المجتمع دون أن يربط أياً من الشخصيات بكلمة سوري ولو مرة واحدة، بل سعى إلى تقسيم اقليمي مناطقي شديد اللهجة، مثبتاً مفاهيم في منتهى الرجعية، الأصولية والتخلف، مدعياً في نهاية المشهد مقولة الوحدة الوطنية، وهنا لا تؤخذ الأعمال بالنيات، فما وصل إليه العرض حتماً لا يريد أن يقوله.

المصالحة والوحدة الوطنية

في نهاية عرض «ليلة سقوط بغداد» تستعرض على الشاشة إسقاط اللحظات الأخيرة لسقوط تمثال صدام حسين، يهرع بعد ذلك بطل العرض إلى الشوارع ويبدأ بتفقد تماثيل مدينة حلب والشخصيات التاريخية الهامة التي مرت فيها ثم يدخل إلى خشبة المسرح حيث يفترض بأنه مستودع للتماثيل، ويبدأ بمناجاة تمثال عشتار وسنغض الطرف عن التنفيذ التجاري للتماثيل الموجودة في المستودع، وهي تماثيل عارضي أزياء لا أكثر ولا أقل، وسنغفل أيضاً التشابه بين المشهد الأخير من مسرحية كاسك يا وطن حيث يناجي دريد لحام أباه وبين مشهد مناجاة همام حوت لتمثال عشتار، مع الفارق الكبير جداً من جهة الأداء التمثيلي. ففي الوقت الذي أثبت دريد لحام في هذا المشهد نفسه كممثل لن يتكرر في سورية وبعث في أجيال من المتفرجين حالات شعورية لا تزال تتكرر إلى الآن كلما شاهدنا المشهد، كان همام حوت يلفظ أنفاسه على خشبة المسرح، فبالكاد كان يمثل، ألقى بعض المواعظ المباشرة وفتح حديثاً مع مجموعة من المسؤولين في الصفوف الأمامية، ثم ألقى بقنبلته، حين اعترف بشكل مباشر بوجود أزمة بين الشارع وبين الحكومة، ليبدأ بوصاياه، وهي: يجب أن يتصالح المثقف مع ابن الشارع، ويجب أن يتصالح المسؤول في سيارته مع المواطن، ويجب أن يتصالح الشارع مع الحكومة، وبما معناها على الشارع أن يبدأ هذه المصالحة، ما الذي يريده صاحب «ضد الحكومة» هنا تماماً؟؟.. وهل يجوز الحديث عن المصالحة في هذا الوقت؟؟!

يريد مصالحة.. أي نوع من المصالحة، في المفهوم التجاري المصالحة هي أنه عندما يكون هناك إشكال مالي بين طرفين حول مبلغ مالي يتم دفع جزء يسير من هذا المبلغ وتتم المصالحة، وحسب تصريحات وزير الاقتصاد الأخيرة، أن مبلغ ناتج النهب المحلي وصل إلى 180 ملياراً فهل ستتم المصالحة على هذا.. هذا من جهة.

أم أنه يتحدث عن مصالحة من نوع آخر، مفترضاًُ عدم وجود وحدة وطنية، إن الوحدة الوطنية هي جزء من المجتمع السوري وليست أبداً بالشكل الذي عمل على تصويره، فإن كانت هناك بعض النواقص في صورة وحدتنا الوطنية فإن ذلك يتطلب عملاً لتوطيدها أكثر ولا غير.. فكلمة مصالحة تطلق على اسبانيا بعد فرانكو، على لبنان بعد حرب أهلية، أو على العراق بعد الاحتلال الأمريكي، ولن يكون الحديث عن المصالحة في حالات أخرى بالحديث الدقيق.

مع احترامنا لكل الفرق المسرحية النقابية التي شوه العرض صورتها فإن الأجدى أن يعرض هذا العمل على الأصدقاء في النقابة وكفى الله المؤمنين شر القتال..

 

■ عمرو سواح