ضد الفكر .. وحيد الاتجاه
اللغة الانجليزية تسود العالم اليوم، وهي تلعب دور الأداة الفعالة من أجل نشر الفكر وحيد الجانب، السائد في العالم اليوم. إن عالم اللغويات الفرنسي الشهير كلود هاجيج، صاحب العديد من المساهمات والدراسات في مجال «حياة اللغات وموتها»، يدعو الى مقاومة هذا الفكر في كتابه الذي يحمل عنوان «ضد الفكر.. وحيد الاتجاه». ويقصد في الفكر هنا، بالتحديد، السطحي منه، الذي يحاول «أمركة» كل مظاهر الحياة والفكر في عالم اليوم.
أما الترجمة العملية لمثل هذا التوجه الوحيد، فيحددها المؤلف في تفوق السطحي على العميق، إذ لم يعد من الممكن التمييز بين ما هو أساسي، وما هو ثانوي، وحيث تصطدم المشاريع الفكرية عالية القيمة، بقوة الجمود والكسل اللذين تفرضهما التفاهة المحيطة والمرامي ذات المكاسب الصغيرة، فهناك توجه واحد لتعميم نمطية واحدة في الأذواق والأفكار وكل مظاهر الحياة اليومية، بل وفي مفهوم الحياة نفسه.
وبالتالي يغدو الدفاع عنها بمثابة المساهمة في معركة الإنسان من أجل حرية العقل، وحرية الفكر. ولا يتردد المؤلف، ابن السادسة والثمانين من العمر، في القول صراحة، إن هذه هي أحد معارك حياته كلها. وأيضا معركة باسم «تنوع اللغات وتنوع الثقافات».
ويقول المؤلف صراحة: إن اللغة الانجليزية «تشنّ حربا» ضد اللغات والثقافات الأخرى. وهي «حرب» يتم خوضها لمصلحة الفئة الثقافية والاقتصادية والسياسية المسيطرة على أسواق المال العالمية، والتي تجد أهم قواعد تمركزها في العالم الانجليزي- الأميركي.
يرى كلود هاجيج أن هذه الإمبراطورية الانكلوسكسونية، بصدد فقد الكثير من مواقعها في العالم، وهي تنحدر أكثر فأكثر، ولكنها لا تزال تملك سلطة السيطرة والتدمير. وكما أن وسائلها في ذلك، هي ما يسمى بالقوة الهادئة، الفكرية والثقافية، أكثر مما هي بدباباتها وطائراتها وترساناتها من السلاح.
ومن الملاحظ أن كلود هاجيج يتحدث، كما فعل سابقون له، عن غزو العقول أو الحرب الجديدة ضد الذكاء، مفصّلا في الوقت نفسه، آليات الهيمنة اللغوية الانجليزية-الأميركية. ولكنه لا يكتفي بذلك، بل يطالب بالمقاومة. وهو يشير إلى أنه يعتمد بإمكانية ذلك، على وقع الصعود الآسيوي، مطالبا أن تنتهج أوروبا، وفرنسا «من جديد» النهج عينه.
وأما اللغة الانجليزية، فهي تحمل، وعلى العكس، طبقا لرأي المؤلف، مشروعا للهيمنة، ذلك أن انتشارها وتعميمها ترافق مع الإيديولوجية الليبرالية الجديدة، والتي أصبح ضحاياها عرّابوها والشعوب. ويصل المؤلف في تحليلاته، إلى القول إن انتشار أية لغة ليس سلبيا بالضرورة، في حدّ ذاته، ولكنه يصبح كذلك عندما يكون حاملا لمشروع هيمنة متكامل.
اللغة الانجليزية في نسختها الأميركية الحالية، تحمل في طيّاتها رؤية محددة للعالم، لا ينضوي كُثر في إطارها. ولا يتردد المؤلف في القول انه يعتبر موسيقى البوب والروك اندرول، مثلا، بمثابة أدوات تعبّر عن نزعة الهيمنة على العالم، و«تؤدي إلى عقم حقيقي في القدرة على الإبداع». والتأكيد أن «الانضمام» إلى النموذج الموديل- الثقافي الأميركي سيؤدي إلى «انحدار الثقافة».
ما يؤكده المؤلف أيضا هو أن «الفكر وحيد الاتجاه» ليس حصرا على لغة بعينها. ويشير أن اللغة الصينية هي اليوم بصدد أن تصبح ذات بعد عالمي من خلال وجود 1200 معهد «كونفوشيوس» في مختلف أنحاء العالم. وبالاعتماد على صعود القوة الاقتصادية والسياسية يستخدم الصينيون كل ما في وسعهم من أجل نشر ثقافتهم ولغتهم.
بهذا المعنى يرى المؤلف أن المسألة تتعلق بـ»مواجهة ضد اللغة الانجليزية» وتشكيل «بديل» لها. وبهذا المعنى أيضا يرى أن اللغة الصينية هي بصدد اتخاذ شكل من أشكال «الفكر وحيد الاتجاه».
أنه لا تنبغي الاستهانة بصراع الإيديولوجيات.
إن المؤلف يطالب في كتابه بمقاومة الهيمنة اللغوية الانجليزية، بما تحمله من مشروع ليبرالي جديد- اقتصادي، وخاصة مالياً، متكاملاً. ويدافع بالوقت نفسه، عن التنوّع اللغوي.