زهير مشعان زهير مشعان

أم الشيوعيين أم الأصدقاء.. ( إلى الأمهات في عيدهنّ)

أمّ علي..! هل هي الأم ذاتها التي كتب عنها مكسيم غوركي روايته الشهيرة عند كل الثوريين.. ربما كان يتنبأ..
هل هي مصادفةً بأن تُكنى بأمّ علي.. الفخر بالآباء والجدود والتكني بهما من التراث الشعبي..؟  واسم علي يذكرنا بعلي بن أبي طالب الذي قال:  لو كان الفقر رجلاً لقتلته.. وقال أيضاً : عجبت لمن بات جائعاً ولم يخرج شاهراً سيفه والبعض ينسبه إلى أبي ذرٍ الغفاري وأعتقد أن الفرق بينهما قليل..
اعتدنا أن نرثي من فقدناهم من الأعزاء بعد موتهم.. ونكتشف كم من الأشياء البسيطة هي عظيمة.. والتي كانت تمر دون أن تلفت انتباهنا ونظنها عادية..

لكن أن نتذكر الأحياء فهذا ما يحدث نادراً.. إلاّ إذا كان مسؤولاً بغض النظر عمّا يستحقه فالمصلحة والنفاق تفرضان ذلك.. لكن مع أم علي لا مصلحةً شخصية تتطلب ذلك.. فهي ليست أمّي فقط وإنما صديقتي أبوح لها بأسراري..
أم علي.. قد تكون شهادتي بها مجروحة لأنها أمّي.. وحتى وإن فعلت ذلك فلا أستطيع أن أفيها ولو بشيءٍ بسيط مما تستحقه.. لكنني سأترك بعض الوقائع تتكلم وتعبر عن حسها الوطني والطبقي والانساني.. فهي ككل الأمهات اللواتي تجسدت فيهن القيم المتوارثة عبر الأزل.. من عشتار وإنانا آلهات الخصب والحياة.. إلى أورنينا ربة الغناء.. إلى كل الأمهات في الوطن والعالم..
روت لي عدة مراتٍ أنّ والدي-الفلاحون المضطهدون- يلقبونه بأبي الفقراء.. لأنه وقف إلى جانبهم ضدّ الاقطاع وكان رئيساً لأحد مخافر الدرك في ريف الساحل، حيث ولدت هناك وسمتني الجارة زهيراً..
أمضت فترةً في السويداء وكانت تذكر كرم أهلها وطيبتهم وشجاعتهم وعاداتهم وتراثهم الشعبي ولها صور عديدة بزي أهل الجبل، وتعرف أسمهان وقصتها وتغني لنا موالها: «يا ديرتي مالك علي لوم.. لومي على من جفا وخان»..
كانت تستقبل الرفاق ببشاشة وتمازحهم فتزول عنهم الرهبة والحذر، لأننا كشيوعيين كنّا محاربين من السلطة رغم أننا حلفاء، وتحرص علينا وتثق بنا وتوصينا دائماً: «ديرو بالكم على حالكم»، وتدعوا لنا بعد كلّ صلاة: «يا ربّ احميهم»..!
زارني أحد الرفاق يعد غيبةٍ طويلة وكانت هي من استقبلته على الباب فبادرته عاتبةً بالقول: «موزعم احنا يا خويا رفاكَه»،  إشارةً إلى أغنية المبدع العراقي فؤاد سالم من المساهمين في فرقة الطريق العراقية الشيوعية التي يقول فيها: «احنا يابويا رفاكَة/ لازم تلمنا الشُفاكَة/ لو فركَتنا الليالي/ لزمن يا بويا نتلاكَى»..
أرأيتم كم هو رائعٌ ومعبرٌ وكبير هذا العتب، العتب الذي شدت به فيروز، على قدر المحبة العتب كبير..
 كانت تعاتب كل الرفاق والأصدقاء أثناء غربتي وغيابي وسجني لأنهم لا يأتون، والتقيت مصادفة منذ أيام بأحد الرفاق القدماء ممن تركوا التنظيم ولم يتخلوا عن الفكر، وكان قد جاء إلى البيت في التسعينيات عندما كنت معتقلاً فتأثر وبكى، بينما كانت هي التي تُهون عليه، وتقول له: «أنت هنا إذاً هو موجود.. وفي هذه المرة احتضنته وقبلته وهو يذوب خجلاً»، ويقول: «أنا قصرت فسامحيني»، وترد عليه ببساطة: «لا يمه آني مشتاكَة لكم.. مشتاكَه لريحتكم.. ريحة هلي»..
اعتدت أنا وهي أن نستيقظ مبكرين قبل أن أتزوج وبعد ذلك لفترةٍ، فأسقي أنا أشجار الحديقة وتعد هي القهوة ونشربها سويةً قبل أن أذهب إلى المدرسة.. ولما سجنت حرمت نفسها من كل ما أحب من طعام وكانت تنام على الأرض تضامناً معي، لكنها استمرت بغلي القهوة صباحاً وتضع فنجانين وتشربهما عني وعنها، واستمرت حتى طلب منها الطبيب التخفيف منها فامتنعت عنها نهائياً حتى بعد خروجي من السجن..
عندما كان يزورنا بعض الأقارب الذين يدّعون التدين ويحاولون الغمزمنّا كشيوعيين وأنا منهم ترد عليهم بوضوح: «الشيوعيين أصدق منكم يا أصحاب اللحى».
منذ زمانٍ كانت تتابع الأخبار من الراديو.. ومن ثمة من التلفاز.. وكان يزعجها حديث المسؤولين الذين يكذبوا و المنافقين واكتشفت الدردري بحسها البسيط.. وتبكي لمعاناة الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين والمجازر التي تعرضوا لها.. بل وحتى المناظر التي تصور المجاعة والفقر في افريقيا..
مات أبي وعمرها أربعة وعشرون عاماً وتحملت همومنا وظروفنا المادية الفقيرة وكانت تتابع دراستنا وهي أميّة وكبرنا وجميعنا حصل على شهادةٍ جامعية بفضلها، بل كان بعض أولاد أعمامنا يأتون وقت الامتحانات وينامون ويدرسون عندنا لينجحوا، فتهتم بهم كما تهتم بنا ونجحوا وكانوا يقولون لولاها لما نجحنا..
في الأزمة الحالية كانت تبكي وهي ترى القمع والقتل، وتصرخ: «يول يمه.. احنا سوريين ليش تسوون بعضكم؟»..

 
كثيرة هي المواقف التي كانت تمر ولا ننتبه لها لكن ذكرها الآن وفي يوم عيد الأم المضمخ بالدماء.. الذي يترافق مع عيد تفتح الورود وعودة نسغ الحياة للسريان في الطبيعة، عيد النوروز، ربما شمسه تنشر الدفء فينا وتعيد لنا الحميمية التي فقدناها، فتحية لكل سوريةٍ وسوري بهاتين المناسبتين.. وكل عام وأنتم والوطن بخير..