وداعاً رسول حمزاتوف الأرض تحتضن رسولها.. الجبال تنعاه..

«الطيور تحب ان تطير في وجه الريح. والسمكة الجيدة تسبح ضد التيار. والشاعر الحقيقي يثور حين يأمره  قلبه على آراء المجتمع»

ثمانون عاماً لم تسرق طفولته.. ظل يصوغ للعالم قصيدة العشق الأبدي للأرض ـ الانسان.. مؤكداً الأصالة في زمن الارتداد الجارف.. ظل مترجماً أميناً لصرخات الجبال وتنهدات الأرض.. يحفر بشغاف الروح على المهد ملامح الوجه البشري... «شجاعا كان ابوه، وصادقا.. كان أبوه حتى النهاية.. هنا يرقد طفل يحمل اسم ابيه.. خنجر أبيه معلق فوق رأسه.. ومآثر أبيه في كلمات الاغنية..عند مهده»..

«الناطق الرسمي باسم الأرض»!

في مطلع هذا الشهر.. وبعد مايقارب الشهرين من الاحتفال الكبير الذي أقامه أبناء شعبه بمناسبة بلوغه الثمانين من عمره.. ودع الدنيا شاعر الشعب الداغستاني الشهير وشاعر القوقاز الأول و«الناطق الرسمي باسم الأرض» ـ دون ادعاء ـ  رسول حمزاتوف عن عمر ناهز الثمانين عاما.

ولد حمزاتوف في 8  أيلول عام 1923 في قرية تسادا الداغستانية، وهو نجل الشاعر المعروف حمزة تساداس.. بدأ حمزاتوف حياته مدرساً بعدما تخرج من معهد غوركي للآداب في موسكو عام 1950، وأصدر أول دواوينه عام 1943 وكان باللغة الآفارية، ليفتتح سلسلة دواوينه وكتبه التي يزيد عددها على الـ 40 معظمها بلغته الأم الآفارية ما عدا دواوينه الثلاثة الأخيرة التي كتبها باللغة الروسية. وتعتبر اللغة الآفارية بالنسبة لحمزاتوف رمزا للأرض والتاريخ، لحكايات الأجداد وأغنيات الطفولة.

جائزة لينين

انضم حمزاتوف لعضوية اتحاد الكتاب في الاتحاد السوفياتي السابق وهو في العشرين من العمر، وأصبح رئيساً لاتحاد الكتاب الداغستان بعد تخرجه مباشرة من معهد غوركي، وبقي يشغل هذا المنصب حتى رحيله.

في عام 1963 حصل شاعرنا على جائزة لينين عن مجموعته الشعرية «نجوم سامقة». ومن دواوينه: «أغاني الجبال»، «سنة مولدي»، «قلبي في الجبال»، «وطن الجبلي»، «نجم يكلم نجما»، «امرأة خلاسية»، «الحدود»، «مسبحة السنين»، «نقوش»، «داغستان بلدي»، والأخيرة أشهرها، وترجمها للعربية بابداع وشعرية عالية «الشيوعي المزمن» عبد المعين الملوحي ويوسف الحلاق.

ترجمت أعماله إلى الروسية وإلى عشرات اللغات الأجنبية الأخرى. ومنح عام 1959 لقب شاعر الشعب في داغستان، كما منح لقب «فنان داغستان القيم».

شاعر القرن العشرين

منح حمزاتوف جوائز وألقاباً عديدة، بينها جائزة دولية «أحسن شاعر في القرن العشرين». وفي الوقت نفسه كان إنسانا بسيطا متواضعا، طيب القلب. وكانت أشعاره تدهش بطابعها الغنائي، وليس مصادفة أن أصبح العديد منها نصاً لأغان كثيرة وأشهرها أغنية «الغرانيق» المكرسة لشهداء الحرب العالمية الثانية. 

وتكريماً له ولوالده، رمم أهالي قرية تسادا المنزل الذي ولد فيه حمزاتوف وهو منزل والده شاعر الشعب حمزات تساداس وحولوه إلى متحف.

من القلب الى الورق

«لقد عشت في هذه الدنيا أكثر من خمسة عشر ألف يوم، وقطعت طرقا كثيرة جدا، والتقيت بآلاف كثيرة من الناس، انطباعاتي لا تعد، كأنها السواقي الجبلية أثناء المطر أو أثناء ذوبان الثلوج. لكن كيف أضمها لأجعل منها كتاباً ؟»، (لهذا يكتب حمزاتوف تجربته وتجربة الآخرين، يسجل ما سمعه من قصص وأمثال وحكايات من أفواه الجبليين البسطاء، يردد أغاني الأمهات دموعهن على مهود أطفالهن، يتتبع عزف القيثارة الشجي المسافر في أعالي الجبال والوديان، وإيقاعات الطنبور في ساحات المعارك وحفلات العرس، يكتب عن أشياء كثيرة تملأ قلبه دون ان يعنى بشكل فني محدد لكتابه ولهذا فهو ليس شعرا ولا قصة ولا رواية ولا سيرة ذاتية لكنه كل هذا وأكثر).

تقرأ حمزاتوف.. «داغستان بلدي».. فتقرأ بلدك مهما ابتعدت أو اقتربت عن داغستان.. تقرأ عن الفلاح البافاري، لترى فلاح أرضك بأي جغرافيا على هذا الكون..   

لم تكن أوراق حمزاتوف هواجس شاعر تقرؤها النخبة.. لم تكن مواعظ ممجوجة.. إنها نبض يحاكي الوجع الدفين بعذوبة توقظ الجمال والرائع الانساني، «بسيط كالماء.. واضح كطلقة مسدس».. وفيٌّ للإرث الأصيل... نقرأ رسول في أسطر قليلة، فنسمو:

● (لا تقل أعطني موضوعاً بل قل أعطني عينين) «نصيحة لكاتب شاب».

● (أروع الجرار تصنع من الطين العادي وأروع الأشعار من الكلمات البسيطة). «كتابة على جرة».

● (الطيور تحب ان تطير في وجه الريح. والسمكة الجيدة تسبح ضد التيار. والشاعر الحقيقي يثور حين يأمره  قلبه على آراء المجتمع).

● (قال أبو طالب «شاعر داغستان»: إذا أطلقت نيران مسدسك على الماضي أطلقَ المستقبلُ نيران مدافعه عليك).

● (العصفور الذي يبدل أعشاشه دائما ولا يعرف انتقاء واحد منها يبقى دون عش).

● (ان الكلمات التي لم أقلها أغلى علي، على قلبي، من كل الكلمات التي قلتها).

● (نحن الشعراء مسؤولون عن العالم كله، لكن الذي لا يرتبط بجباله لا يمكن ان يمثل العالم!).

● (إن الإنسان في حاجة إلى عامين ليتعلم الكلام وإلى ستين عامًا ليتعلم الصمت، وأنا لست ابن عامين ولا ابن ستين عامًا.. أنا في نصف الطريق، ومع ذلك فيخيل إلي أني أقرب إلى الستين؛ لأن الكلمات التي لم أقلها أغلى على قلبي من كل الكلمات التي قلتها).

● (الشاعر عندما يتحدث عن الحب فهو يعني الحب للبيت.. للأرض.. للناس الذين هم أحباء إلى روحه وللمرأة الوحيدة).

● (إذا شد صديق طيب على يدك فإن يدك لا تذوب في يده بل تصبح أكثر دفئًا وقوة).

● (نحن في انتظار وردة لم نزرعها بعد)!

الملوحي يتذكر جيداً!

لن نرثي حمزاتوف.. دعونا نتحدث عنه.. ومَن يمكن أن يحكي لنا عن شاعرنا.. هكذا كان السؤآل.. وفوراً توجهنا الى «الشيوعي المزمن» الأديب عبد المعين الملوحي الذي  ترجم بابداع كتاب «داغستان بلدي».. لم يصغ الملوحي كثيراً الى أسئلتنا.. راح يتكلم:

قصتي مع الكتاب

كنت أقرأ مجلة الأدب السوفييتي، فعثرت فيها على مقاطع نشرتها المجلة من كتاب «داغستان بلدي» للشاعر الداغستاني، رسول حمزاتوف، قرأتها فأعجبت بها وترجمتها رأساً ونشرتها أول مرة في مجلة «الآداب الأجنبية» الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب عام 1975، وجاءني بعد سنوات بدر الدين السباعي وطلب نشر الكتاب في «دار الفارابي» فأعطيته ما ترجمته من الكتاب عن الفرنسية، وماترجمه الأخ يوسف الحلاق من اللغة الروسية مباشرة.

أما ما كسبته من هذا الكتاب فهو (1106) ليرات بالحرف الواحد، مع أن الناشر ربح منه ما لايقل عن (500) ألف ليرة سورية وجاء بدر الدين السباعي مرة أخرى إلي وطلب إعادة نشر الكتاب فوافقنا على ذلك لأنني أرى أن نشر الثقافة ليس تجارة، وبعد نشره ذهبت مع الأخ الأستاذ علي خلقي رحمه الله، وقلت له ربما أعطانا شيئاً عن النشر الثاني للكتاب، فشكا بدر الدين السباعي الخسارة، وكنا في آخر الشهر، وكان مع المرحوم علي خلقي (10) ليرات سورية، فأخرجها من جيبه وقال لبدر الدين السباعي خذ هذه الليرات العشر وعوّض بها عن خسارتك...

وعندما ظهر الكتاب، أثار ضجة كبرى في الأوساط الأدبية، وظلت الصحف سنتين تأخذ من هذا الكتاب فقرات وتعلق عليه.

«قلبت السجادة»!!

الأشياء التي قرأتها في هذا الكتاب مذهلة، فأنا أعتقد أن قليلاً من الكتب الأدبية تصل إلى هذا المستوى، ونسيت أن أقول لك أنني قابلت رسول حمزاتوف رحمه الله في اتحاد الكتاب العرب في دمشق فسألني: من أي لغة ترجمت كتابي؟ فقلت له: من اللغة الفرنسية، فقال: أنا كتبته باللغة الآفارية وترجمه الفرنسيون إلى الفرنسية فقلبوا السجادة فماذا فعلت أنت؟

قلت له: قلبت السجادة فعادت إلى وجهها الأول.

الوطن، العمل، اللغة

أعتقد أن الأمور الهامة التي طرحها رسول في كتابه هي ما يلي:

1. الأديب لايمكن أن يكون أديباً إنسانياً إلا إذا انطلق من وطنه وبلده وقريته.

2. الأديب لا يجوز أن يكون لساناً للطبقات الحاكمة، وإنما يجب أن يبقى لسان شعبه وأمته، فقد هاجم  رسول الإمام شامل، وهو قائد الحركة التحريرية لداغستان من حكم القياصرة، بعد أن اتهمه الحكام بأنه عميل إنكليزي تركي، وجاء هجومه بعد تصديقه لهذه التهمة عام 1951، ثم ظهر له أنه قائد ثوري تحريري، فاعتذر عن هجائه عام 1961 وأنشأ قصيدة في مدحه.

3. علمنا رسول أن نحافظ على لغتنا القومية، فقد زار فناناً داغستانياً في باريس وعاد إلى داغستان، فسألته أم هذا الفنان: بماذا تحدثتم.؟ فقال رسول: تحدث بالفرنسية، وتحدثت بالداغستانية، فرفعت الأم العجوز النقاب عن رأسها ثم قالت: هذا ليس ابني يا رسول، لو كان ابني لما نسي اللغة التي تعلمها مع حليب أمه، ورفع الغطاء عن رأس المرأة دليل إلى أن ابنها  مات وليس حياً.

4. علمنا في كتابه قيمة العمل في حادثة عجيبة، كانت قرية أفخازيا مشهورة بصنع الفخار، وجمع القرويون الفخار وذهبوا لبيعه في العاصمة، فلقيهم في الطريق عدة شبان، فسألوهم: كم ثمن هذا الفخار؟ ثم اشتروه منهم، وركب الافخازيون حميرهم وعادوا إلى قريتهم، وبعد قليل وقفوا ونظروا إلى الشبان، فرأوهم يضعون الفخار على طرف هاوية ويبدأون برميه في الحجارة ليكسروه، فسحب الفلاحون خناجرهم وهجموا على الشبان الذين يريدون كسر فخارهم. فقال لهم الشبان: لقد أخذتم ثمنه فلماذا تعترضون علينا؟ فقال لهم القرويون: ليست قيمة الفخار بالتراب الذي صنعناه منه، وإنما قيمته بالروح والعاطفة التي صنعناه بهما.

حادثة:

كنت في السعودية، وكان د. شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة فيها، فزرته في فندقه. فقال لي: يا عبد المعين وكنت تلميذه، لماذا لم ترسل لي كتاب الأدب الفيتنامي، فقلت له: ماذا تصنع به يا دكتور؟ فقال لي هذه الكلمة: يا عبد المعين: لايمكن أن تكون أديباً عربياً إلا إذا اطلعت على الآداب الأجنبية. فأرسلته له عند عودتي إلى دمشق...

■ كمال مراد

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.