أوراق خريفية «استبيان»

كلف صحافي بإجراء استبيان في إحدى مناطق المخالفات بضواحي العاصمة. أوقف سيارته عند مدخل الحي قرب صيدلية «الشفاء العاجل» وترجل حاملاً الكاميرا وجهاز التسجيل. وتوغل في أزقة الحي وزواريبه..

الحُفر والمطبات الطبيعية ومستنقعات الوحل وضيق الممرات بين بيوت السكن.. جعله يثني على نفسه ويشكر ربه لأن قراره كان حكيماً، ولم يدخل بسيارته إلى أعماق هذا الحي! ومع ذلك فقد لعن الساعة التي قبل فيها هذه المهمة المقيتة والمقرفة (استبيان قال استبيان!)

هاهي امرأة تكنس براز ابنها من أمام الدكان الذي تعمل فيه، ربما بسبب غياب زوجها في عمله الثاني وتدلق ما بجوفها من سباب وشتائم على ابنها وحظها مع كل ضرب مكنسة على الأرض وهاهم مجموعة أولاد أشقياء قذرون، يلعبون ويقفزون كالسعادين على دولاب مرمي في وسط الطريق ولا يعرفون التخاطب مع بعضهم إلا من الزنار ونازل.. (ماهذا ياإلهي!) تمتم بداخله. غير اتجاه سيره ودخل في زقاق أشبه بشارع، فهو أكثر عرضاً من غيره.. وجد مجموعة نسوة يملأن بفرح بيدونات المياه من ماسورة مكسورة، وعدد من الأطفال أكثرهم حفاة يسيّرون زوارق ورقية في البركة المتشكلة من المياه المهدورة.. (يا للهول! إنهم يسرقون المال العام ويعبثون به!) قال في سره..

انعطف إلى زقاق جانبي، عساه يتخلص من هذه المشاهد المؤذية.. فوجئ ببائع خضرة يعرضها على عربة خشبية توقع أنها أصبحت في المتاحف منذ زمن بعيد! تمعن بالخضرة المعروضة للبيع! فأصيب بالغثيان! قال في نفسه: (أيعقل أن تؤكل هذه النفايات من قبل البشر؟!.. إن قطتي تأنف حتى من النظر إليها!!).

خدش سمعه هرج ومرج وأصوات غاضبة وضاحكة بوقت واحد!! منبعثة من إحدى النوافذ.. ألقى نظرة بفضول إلى داخل النافذة! وجد مجموعة من الشبان يلعبون الورق، وضباب دخانهم الرخيص يعبق بأجواء الغرفة.. وتفوح منها رائحة نتنة، همهم قائلاً: ماهذا الشعب الكسول المتخلف؟!! أيعقل أن ألوث صحيفتي باستبيان مع هؤلاء الأوباش الهمج؟!

عقد العزم على العودة فوراً قائلاً: «بلا استبيان ميداني بلا بطيخ! سأكتبه وأنا وراء طاولة مكتبي، والنتيجة متيقن من صحتها» لكنه تاه عن طريق العودة! وقف حائراً يلوب في مكانه..! مسح بعينيه كل ما حوله..! وقع نظره على كهل يقتعد حجراً أمام منزله، منهمكاً بتثاقل بإدراج لفافته. اقترب منه وسأله: عفواً، ياعم! أين تقع صيدلية «الشفاء العاجل»!؟ رمقه الكهل بنظرة متفحصة فيها من المكر أكثر مما فيها من البسمة وأجابه مشيراً بإصبعه الوسطى: تنعطف إلى اليمين، ثم تسير باتجاه الشرق، فتنعطف عند أول  زقاق على اليسار، تجد خزاناً للكهرباء. تدير ظهرك عليه وتتجه نحو أول زقاق على اليمين. بعدئذ تمر بزاروب يتجه نحو الغرب وتمشي مسافة أربع خمس دقائق، فتجد بائع حلويات مشبك، أمامه مباشرة زقاق تدخل فيه وعند أول منعطف على اليمين باتجاه الجنوب تسير به فتصل إلى الصيدلية!

تأفف الصحافي متبرماً وقال: لكنني يا عم راسي قالب! ولم أعد أدرك الجهات الأربع! هلاّ تكرمت بمرافقتي!؟ أرجوك! زفر الكهل، وتف بعض نثرات التبغ التي علقت على لسانه ونهض مشعلاً لفافته ونفض مؤخرته قائلاً: هيا معي!

في الطريق تذكر الصحافي استبيانه، وخطر له أن يتسلى مع هذا الكهل ريثما يصل إلى سيارته، فسأله:

■ عمي، هل مارست حقك في التصويت بانتخابات مجلس الشعب؟

●● أي نعم! وانتخبت قائمة الجبهة!

- أيمكنك أن تذكر اسماء تسعة نواب من المجلس السابق؟

■ لا والله يا ابني!

●● طيب، اذكر لي أسماء تسعة وزراء في الحكومة؟

■ .... (يضحك)... أعرف اسمي وزيري الدفاع والخارجية!

●● ماذا تعمل يا عم؟

■ أعمل حارساً في بناء سكني قيد الإنشاء!

●● هذا يعني أنك تعرف اسم رئيس اتحاد نقابات العمال؟

■ لا والله يا ابني!

لدى وصول الصحافي إلى سيارته، جلس وراء المقود، وكتب في استبيانه:

99 % يجهلون اسم وزير البيئة!

99 % لا يذكرون أسماء أعضاء مجلس المدينة ومجلس المحافظة!

99 % لا يعرفون عدد وأسماء أحزاب الجبهة!

وبالتالي 99 % من الناس لا تعرفهم أحزاب الجبهة!!

 

■ اللاذقية ـ ضيا اسكندر