الياس شوفاني يقرأ «أمن إسرائيل الإستراتيجي»

هذا هو عنوان لكتاب آخر صدر مؤخرا عن دار «الحصاد» في دمشق، من تأليف الباحث والمؤرخ الفلسطيني الدكتور إلياس شوفاني الذي تمتاز كتاباته بسعة الاطلاع وعمق التحليل ووضوح المعنى.

يرى المؤلف في إسرائيل ظاهرة استيطانية فريدة من نوعها في تاريخ العالم، وكيانا وظيفيا أقيم بمزاعم باطلة في صلب العالم العربي بواسطة الغرب، لكي يحول دون قيام وحدة عربية ذات سيادة واستقلال حقيقيين، تنهض بمواطنيها وتصبح قوة كبرى، حيث أنها تملك جميع المقومات لذلك. أي أن إسرائيل ليست سوى قاعدة عسكرية متقدمة للغرب مهمتها إبقاء الشعوب العربية في حالة ضعف مستديم في كل مجال وقد نجحت في تحقيق جزء من المهمات التي أنيطت بها ومازالت عاكفة على أداء دورها الذي من أجله أقيمت.

يقول المؤلف في مقدمة الكتاب: «إسرائيل كما هي اليوم، ليست سوى تجسيد جزئي للمشروع الصهيوني، لم يستكمل بعد، كما تصورته الصهيونية الهرتسلية، من حيث أنها دولة استعمارية - استيطانية، تتغطى بالاسترجاعية، وظاهرة إمبريالية في مضمونها، يهودية في شكلها. ولا غرو، فهي نتاج عمل مشترك بين الحركة الصهيونية العالمية التي قوامها الجاليات اليهودية المنتشرة في بقاع الأرض، وبين الدول الإمبريالية، ذات الأطماع الاستعمارية على المستوى العالمي، كل واحدة منها ودورها في حينه. فهذا المشروع كما عبرت عنه الصهيونية السياسية، انطلق وله شقان، الواحد يهودي والثاني إمبريالي وبينهما شراكة غير متكافئة، تعكس موازين القوى بين الطرفين، فكان الشق اليهودي، الشريك الأصغر، والإمبريالي، الشريك الأكبر، وهذا الأخير هو الذي رفد الأول بمقومات القدرة على الحياة وبالتالي النمو والتطور، ولولا الشق الإمبريالي، لما اختلف مصير الشق اليهودي عن مصير الإرهاصات الصهيونية التي سبقت مشروع هرتسل السياسي، أي الترنح والانهيار، لاعتماده على العنصر اليهودي فقط».

يتناول الكتاب العلاقة بين القوى الاستعمارية الأوروبية والاستيطان اليهودي في فلسطين منذ نهاية القرن الثامن عشر، عندما دعا نابليون اليهود للانضواء تحت القيادة الفرنسية لإقامة وطن لهم في فلسطين التي كان ينوي احتلالها، دون أن تلقى دعوته آذانا صاغية، ولكن البريطانيين أعجبوا بالفكرة وحاولوا استغلالها لمصلحتهم ضد فرنسا، دون أن تثمر تلك المحاولات عن شيء في ذلك الحين. عادت الفكرة لتراود أذهان البريطانيين مرة أخرى بعد مؤتمر لندن سنة 1840 عندما فرضت الدول الأوروبية الانسحاب من بلاد الشام على محمد علي للحؤول دون قيام كيان قوي في الشرق يهدد مصالحها. رغم ذلك، فإن استجابة يهود أوروبا لمبادرة وزير الخارجية البريطاني اللورد پالمرستون، في 11 - 8 - 1840، كانت فاترة للغاية.

ازداد الخضوع العثماني لإرادة الدول الأوروبية بعد حرب القرم (1854 - 1855) واستمرت محاولات إغراء اليهود للاستيطان في فلسطين، ولكن دون جدوى، بل أن معظمهم عارض الفكرة، حيث أن تيار الهجرة اليهودية كان من شرق أوروبا إلى غربها ومنها إلى الأمريكيتين وأستراليا، وقد بلغ عدد اليهود الذين هاجروا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى ما يقرب من ثلاثة ملايين، وصل منهم إلى فلسطين أقل من واحد في المائة، وكان عدد اليهود في فلسطين عشية الحرب العالمية الأولى يقرب من 85000 شخص، انخفض في نهايتها إلى 55000 ، لكنه عاد ليتنامى بعد الحرب والاحتلال البريطاني لفلسطين وصدور وعد بلفور.

كان الانتداب البريطاني الذي أقرته عصبة الأمم، الفرصة الذهبية التي سخرتها الحركة الصهيونية لتكثيف سيل الهجرة إلى فلسطين رغم المقاومة السلمية والمسلحة للشعب الفلسطيني، الذي كان أدرك الخطر المحدق به بكل وضوح بعد وعد بلفور، وكان محقا في تقديره للمؤامرة التي تحاك ضده. هذا الجانب هو أحد ثلاثة جوانب للأمن الاستراتيجي الأعلى للمشروع الصهيوني في فلسطين وأهمها، لأنه يوفر القاعدة الآمنة للآلة العسكرية، أو قل، الثكنة العسكرية التي لا تتم إلا بتهويد كامل التراب الفلسطيني. أما الجانبان الآخران فهما: هيمنة الثكنة على محيطها من خلال العدوان على الدول العربية والتحكم بمصيرها، بواسطة السيطرة العسكرية والنفوذ الاقتصادي، وشل إرادات شعوبها وتغييب وعيها السياسي، وتوثيق العلاقة المتميزة مع المركز الإمبريالي المعبر عنها بالتعاون الاستراتيجي بين الثكنة (إسرائيل) وبين المركز (العواصم الغربية المختلفة وأهمها في الوقت الراهن، واشنطن)، وهنا يظهر البعد الدولي للثكنة الإسرائيلية وبالتالي حرص ما يسمى «المجتمع الدولي» على أمنها.

ويستعرض المؤلف في الختام ما جاء في ورقة قدمها الپروفيسور يحزكئيل درور في مؤتمر هرتسليا. حيث ذكر درور في ورقته عشرة أسس يرتكز عليها أمن إسرائيل  العلاقة متينة بين إسرائيل والجاليات اليهودية في جميع بقاع الأرض، والوعي العميق للجمهور اليهودي في إسرائيل للتحديات ومتطلبات مواجهتها، والتعاضد بين اليهود في إسرائيل بغض النظر عن ميولهم السياسية والدينية والالتفات إلى اليهود الذين هاجروا منها والحفاظ على التواصل معهم وإعطاؤهم حق التصويت للكنيست ورئاسة الحكومة، أو السعي إلى التفوق العلمي والتكنولوجي للمجتمع الإسرائيلي بحيث يستطيع أن يضمن لإسرائيل مواجهة الأخطار التي تواجهها بنجاح، والحفاظ على نظام حكم ديمقراطي وعلى السوق الحرة هما عاملان أساسيان في استمرار ازدهار إسرائيل وقدرتها على المحافظة على تفوقها على جميع الدول المعادية مجتمعة.