مكارثية الثقافة الجديدة لمعهد (غوته) في مواجهة مانفريد فوست

القضايا الإنسانية العادلة قادرة فعلا على أن توحد بين ضمائر الناس وعقولهم أيا كان مكانهم على وجه البسيطة. عناوين الصحافة وشاشات التلفزة وغيرها من وسائل الإعلام تؤكد  ذلك. إذ لم يعد بالوسع  الجلوس بهدوء ضمن غرف بيوتنا واعتبار قضايا العالم الحاصلة في مكان ما منعزلة ومنفصلة عن همنا  اليومي وعن أوجاع  الناس الآخرين في أي  مكان آخر على وجه البسيطة. قد يكون هذا بالطبع إنجازاً إيجابياً كبيراً للبشرية في زمن العولمة التي حاول بعضهم فرض جانبها المتوحش فقط علينا.

عندما كانت دبابات الجيش الإسرائيلي في ربيع عام 2002 تدمر البيوت والمخيمات في جنين وغيرها من البلدات والقرى الفلسطينية، لم يتمكن  نيلسون مانديلا من البقاء ساكنا تجاه ظاهرة الكتابات المنحازة ضد هذا الشعب الذي يقاتل من أجل حريته. فكتب رسالة مشهورة ردا على مقالات   الصحفي الأمريكي توماس فريدمان، الذي تميزت كتاباته آنذاك بعدائية مفرطة للفلسطينيين وللقضايا العربية المختلفة، جاء فيها:

«إن نظام الفصل العنصري هو جريمة ضد الإنسانية، وقد جردت إسرائيل ملايين الفلسطينيين من حريتهم ومن أملاكهم واستمرت بنهج نظام غير مبرر من اللامساواة والتمييز العنصري وقد عمدت بشكل غير منظم إلى سجن وتعذيب آلاف الفلسطينيين خلافا لقواعد القانون الدولي، وقد شنت حربا على المدنيين وخصوصا الأطفال».

الدكتور مانفريد فوست المدير الحالي   للمركز الثقافي الألماني (غوته) بدمشق  هو واحد من أولئك الذين ما زالوا يتمتعون بتلك المسحة الأخلاقية الرفيعة من مشاعر احترام الذات والاحتفاظ بنقاء الضمير. وهو من أولئك الذين لم تستطع آلة الزعيق اليومي للدعاية الأمريكية والإسرائلية المشينة أن تدمر نفوسهم. وما  فعله  فوست هو أمر مشابه لما قاله مانديلا. إذ جاء في مداخلة له  في مؤتمر  عقد في أواسط شهر كانون الأول 2002  بمدينة برلين، بعنوان (ثقافة بلا حدود) قوله  أن العمل الفلسطيني الاستشهادي هو نضال من أجل الحرية.

وسرعان ما تناولت تصريحاته تلك بعض الأقلام  المعروفة بيهوديتها الليكودية    المعشعشة في بعض الصحف الألمانية تزعمها، ثلاثة صحفيين هم: (كارولين فتشر، هنريك بودر، ومريام لاو)، بل إن أحدهم  يمضي جل وقته في إسرائيل. فأثار هؤلاء حملة  صحفية مسعورة على السيد (فوست). فاتخذت إدارة معاهد غوته العالمية قرارا متسرعا بنقل السيد فوست إلى الهند كنوع من العقوبة على تصريحه ذاك وفقا لما ذكرته الصحافة الألمانية.

وكانت إشارة السيد (فوست) المذكورة قد جاءت في معرض جواب على سؤال إثر كلمة ألقاها في الندوة المذكورة  تناول بها تجربته خلال خمس سنوات من عمله مديراً للمركز الثقافي الألماني في مدينة رام الله حتى شهر أيلول الماضي (2002) قبل تسلمه لمنصبه المماثل  في  دمشق. حيث كان هناك شاهدا على ارتكابات الجيش الإسرائيلي المشينة  خلال شهري آذار ونيسان الماضيين.

الصحافة أشارت إلى أن السيد فوست أكد فيما بعد ما كان قد ذكره في الندوة البرلينية بالقول: إن تصريحاتي المختصـرة، والمتعـلقـة بالواقع الفلسطيـني لم تكــن خــطأ. فالكرامة الإنسانية، والحق فـي الحيـاة، وسـلامـة الجسـد هــي أشيــاء غـيـر قــابلة للتجزئة (...) وأن  هذا يجـب ايضاً أن ينطبق علـى الفلسطينـيـين الذيـن يتعرضـون للاضطهـاد، وانتهـاك حقـوق الإنسـان بشكل دائم من قبل السلطات الاسرائيلية (...) وإذا استمر التعسف الاسرائيلي، وعدم الالتزام بالمعاهدات الدولية وقرارات الأمم المتحدة، فلن يكون أمام الفلسطينيين إلا الاختيار بين الخضوع أو المقاومة.

إن معاقبة السيد فوست من قبل إدارته في ألمانيا قوبلت باستنكار شديد من قبل المثقفين السوريين والمثقفين العرب والألمان والعديد غيرهم. وقد أرسل المثقفون السوريون قبل أسابيع احتجاجات إلى السيدة (يوتا ليمباخ) رئيسة معاهد غوته الألمانية العالمية. أشاروا فيها إلى أنهم شعروا بقلق شديد نتيجة إذعان رؤسائه لتلك الحملة المغرضة  تجاه هذا المواطن الألماني، الذي تكفل دولة القانون حقه في  أن يعبر عما يمليه عليه موقفه الأخلاقي في أن يكون له رأي خاص حول أية قضية. كما أشار الموقعون  في رسالتهم إلى أن تدابير  كهذه لها معنى واحد في نظرنا هو أن مؤسستكم قررت اعتماد لغة الصهاينة وموقفهم في الصراع الدائر اليوم في فلسطين، وقررت إلزام موظفيها بها. وهي لغة يحاول (بعضهم ) فرضها عليكم، مع أن الالتزام بها يتعارض مع الحقيقة، ويتعارض مع القانون الدولي، إلا إذا تناسيتم أن الاسرائيليين هم الذين يحتلون الأراضي الفلسطينية، وليس العكس (…)  وهل تعتقدون أننا نستطيع الوقوف مكتوفي الأيدي حيال مواقف كهذه.

وجاء في نهاية  احتجاج  المثقفين السوريين قولهم: «نتمنى أن لا تذهب تدابير رئاسة معهد (غوته) في ألمانيا ضد مدير معهدها في دمشق إلى الحد الذي يجبرنا على مقاطعة أنشطته الثقافية، ويجعلنا ندعو مثقفي البلدان العربية إلى مقاطعتها».

وقد بلغ عدد من وقع على رسائل التضامن مع السيد فوست والاحتجاج على معاقبته ما يقارب مئة وخمسين مثقفا من سورية.  كما بعث الكتاب والمثقفون الفلسطينيون في الأراضي المحتلة رسائل أخرى في هذا السياق كان على رأس موقعيها الشاعر محمود درويش ومجموعة كبيرة أخرى تقارب المئة. كما وقع مئات آخرون على موقع أقيم على الإنترنيت  من سورية وغيرها.

ويتساءل الكثيرون: هل معهد (غوته) يريد  تبني سياسة عنوانها «ثقافة بلا حدود» أم أنه يريد ثقافة تحددها السياسة الإسرائيلية ؟؟؟.

ويبدو أن حملة المقاطعة قد بدأت فعلا، وستشمل  مقاطعة النشاطات الثقافية للمعهد، كالمحاضرات والندوات وورشات العمل المختلفة الخ.. (من دون المساس بمقاطعة تعلم اللغة الألمانية). وأن هذه المقاطعة ستبدأ بدمشق وقد تمتد لتشمل البلدان العربية الأخرى حيث يكون لمعهد غوته تواجد فيه. 

وقد نفذت دار قدمس للنشر والتوزيع بدمشق، مقاطعتها الفورية إثر شيوع موقف إدارة غوته في ميونيخ، إذ جاء في كتاب هذه الدار الموجه لرئيسة معاهد غوته السيدة يوتا ليمباخ ما مفاده:

«إن قرار إدارة معهد غوتة بإبعاد الدكتور مانفريد فوست سيلحق أذى كبيرا بقضية العلاقات الثقافية الألمانية العربية، وتطويرها وهو ما سعت إليه دارنا منذ تأسيسها. كما نود لفت انتباه مؤسستكم الموقرة أننا نعدّ ذلك القرار إساءة متعمدة للعرب ولقضايانا العادلة، وهو أمر لا يمكننا السكوت عنه أبدًا».

وجاء في الرسالة أيضا: «وانطلاقًا من موقفنا هذا، وتعبيرًا عن امتعاضنا وغضب قرائنا وأصدقاء دارنا الشديدين من موقف مؤسستكم السلبي من موقف صديق للعرب ولنضالاتهم العادلة، ولناشط لقضية دعم العلاقات الثقافية الألمانية ـ العربية، نود إعلامكم بأن دار قدمس للنشر والتوزيع اتخذت قرارًا بإلغاء العقد المؤرخ في 27 تشرين الثاني عام (2002) والقاضي بترجمة ونشر رواية (اكتشاف البطء/ Die Entdeckung der Langsamkeit) للمؤلف الألماني شتن نارودني (Sten Narodny) الصادرة عن دار بيبر بميونيخ (Piper )Verlag».

وتابعت رسالة دار قدمس للنشر والتوزيع: «كما نود إعلامكم في الوقت نفسه سحب دارنا (قدمس للنشر والتوزيع) طلبات الدعم الأخرى التي قدمناها أخيرًا لكم عبر الدكتور مانفريد فوست. كما ستعمل الدار على تجميد كل علاقاتها مع معهد غوتة حتى يتبين لها حدوث تغيير حقيقي في تلك السياسة التعسفية (...) بهدف لفت انتباه السلطات المسؤولة عن المعهد إلى ضرورة إيلاء أهمية لعلاقاتها مع ممثلي الثقافة العربية الإنسانية مستقبلاً».

إن مواجهة السياسة الثقافية الجديدة  لمعاهد غوته  تصب ضمن منحى المعركة الواحدة التي نواجهها الآن ضد الهجمة البربرية لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وليس المدفع والبندقية هما فقط أدوات هذه الهجمة وإنما أيضا وسائل كم الأفواه والتخويف لكل من لديه الشجاعة للوقوف إلى جانب قضايانا. إنها لمكارثية جديدة تود إدارة معاهد غوته تعميمها.

 

■ د. صاموئيل عبود