مهرجان دمشق السينمائي.. حضور الألق الفني والظلال السياسية

أنهى مهرجان دمشق السينمائي فعاليات دورته الرابعة عشرة بعد سبعة أيام حافلة بعروض منوعة من شتى أنحاء العالم ومن جميع أنواع المدارس السينمائية وصل عددها إلى 500 فيلم وهذا رقم قياسي لا تحققه معظم المهرجانات العالمية، وقد اكتسب المهرجان هذا العام أهمية خاصة، واستطاع استقطاب ثلة من  أهم الأفلام والمخرجين العالميين ومجموعة من كبار الفنانين العرب والأجانب، رغم كل الضغوطات الخارجية وتصاعد التهديدات، ومن هنا كان أحد وجوه المهرجان سياسياً خاصة وأن بعض المدعوين اعتذروا عن الحضور خوفاً من الأوضاع القائمة.

لجنة التحكيم كانت مميزة، وضمت في رئاستها السينمائي السويسري «مورتيس ديهادن» وعضوية الناقد السينمائي المغربي «حمادي كيروم» والفنانة المصرية «بوسي» والفرنسية «كورين بليري» والفنان السوري «جمال سليمان» والمخرج الإيطالي «جان فرانكو منكوزي» والكاتب السوري المعروف «وليد إخلاصي»، وبغض النظر عن أحقية الأفلام التي حصدت الجوائز في المسابقة الرسمية، سنسلط الضوء في مادتنا هذه على الأفلام الفائزة، ونترك للقارئ حرية الاختيار والحكم على رأي اللجنة.

سنبدأ من الأفلام الطويلة، حيث ذهبت جائزة أفضل ممثل «لجيوفاني ريبيسي» عن دوره في الفيلم الأسترالي «شقيق من أحب» إذ أدى دوره بكل إتقان متنقلاً مابين المرح والجدية في فيلم لطيف  يحكي عن شاب يعقد الأمور بإرسال صورة شقيقه بدلاً من صورته إلى عروس إيطالية بغرض الزواج، هذه كانت الفكرة الرئيسية في الفيلم، ورغم بساطتها إلا أن بطلها استطاع أن يمتع الجمهور.

أما جائزة أفضل ممثلة فكانت «لبنيلوبي كروز» عن دورها في الفيلم الإيطالي «لاتتحركي» للكاتبة مارغريت ماتنزانتيني ، وقد جسدت فيه دور المرأة القبيحة التي تسكن في أحد البيوت المهجورة المقابلة لأفخم الفيلات على البحر، وهذا الفيلم واقعي يرصد أوضاع طبقتين من البشر شارحاً أوضاع المهمشين بكل أوجاعهم ومآسيهم من خلال علاقة أحد البرجوازيين الذي يتعرف على فتاة فقيرة عن طريق الصدفة، لتبدأ من خلال ذلك قصة إنسانية حقيقية يرافقها تصاعدات درامية موازية للزوج المثالي  الحقيقي والأب هنا والعاشق هناك.

أما جائزة أفضل فيلم عربي فكانت للفيلم المغربي «أحلام منكسرة» للمخرج عبد المجيد رشيش، سيناريو عبدالله حمدوشي، وهو فيلم ينتمي إلى سلسلة الأفلام الواقعية الكلاسيكية التي تكون نهايتها تقليدية وجاهزة، كما هو الحال في معظم المسلسلات والأفلام العربية والهندية، ومع هذا فقد رصد الفيلم ظواهر التشرد، التسول، العنف، المدن العشوائية، آلام الأنثى...إلخ.

الجائزة الخاصة جاءت من نصيب كل من الممثلة المصرية منة شلبي والتونسية هند صبري لدوريهما في فيلم «بنات وسط البلد» للمخرج محمد خان، هذا الفيلم الذي يحكي عن فتاتين تواجهان الحياة بكل صعوباتها، فهند تعمل في محل ألبسة تملكه سيدة شامية، ومنة تعمل في محل كوافيرة لأسرة مسيحية، وتبدأ المشاكل التي تعاني منها شريحة محددة من الناس. يدخل الفيلم ضمن الفكرة والحلم الذي أرادته الكاتبة «وسام سليمان»، والمخرج ينتمي إلى السينما المخضرمة ويعبر عن نبض وصدى التفاصيل الصغيرة في الحياة.

جوائز الأفلام الطويلة

الجائزة البرونزية نالها عن استحقاق الفيلم السوري «علاقات عامة» وسأترك فسحة كبيرة له كونه فيلماً سورياً وسأبدأ بالجائزة الفضية التي جاءت للفيلم التركي «جرح القلب» للمخرج «يا فول توركول» الذي تأخر في الوصول إلى المهرجان وإلى مطبوعاته وخاصة الكراس الذي يزن عشرة كغ! ولكن يبقى أن الفيلم حصد ماأراده من اهتمام، وقد دخل في منافسة حادة مع فيلم الجائزة الذهبية، وهو يتحدث عن قصة تقاعد معلم المدرسة الابتدائية المثالي الأستاذ ناظم الذي يعود إلى منزله في استنبول بعد أن أمضى خدمة 15 سنة في قرية فقيرة وتكاد تكون منسية في شرقي تركيا.

المشكلة هي أن أبناء ناظم يتجاهلونه ويحتقرونه ضمناً، لأنه فضل المثاليات على أفراد أسرته منذ فترة طويلة، لذلك يبدأ ناظم حياة جديدة بالعمل كسائق تكسي، فيلتقي خلال عمله الليلي بأم تعيش بمفردها وتعمل كمطربة في ناد ليلي رخيص فيتولى رعايتها مع ابنتها ويحاول حمايتها من زوجها السابق الذي يطاردها وحين يقع ناظم في غرام تلك السيدة ينتهي الفيلم..

الجائزة الذهبية حصل عليها الفيلم الأرجنتيني «سماء صغيرة» للمخرجة ماريا فيكتوريا مينيس.  يتحدث الفيلم عن بلدة صغيرة في الأرجنتين  تضم مزرعة يملكها زوجان مع ابن لهما يدعى «شانغو» وفجأة يظهر أحد اللصوص الذي يستفيد من العلاقة المتدهورة بين الزوجين فيدخل في عالم الطفل الصغير بالحب والثقة والمسؤولية، هذه المعاني التي أفقده إياها والداه بخلافهما الدائم، فينشأ بينهما - أي اللص والطفل - علاقة صداقة قوية فيرحلان معاً.. المغزى العام للفيلم واضح، يبين أن ارتباط الإنسان مرهون بمن يهتم به ويعطيه من ثقته وحنانه ومحبته من دون مقابل مهما كانت صفته لصاً أو مشرداً كبيراً أو صغيراً في ظل الخلل والانهيار الذي يسود العلاقات الإنسانية في هذا العصر. يأتي كل هذا ضمن حركة جميلة ومرنة وأداء جميل بإشراف المخرجة والمدرسة في جامعة بيونيس آيريس والمعهد الوطني للتصوير السينمائي ماريا فيكتوريا ضمن ديكور ولغة سينمائية بسيطة، استطاعت أن تحصد أصوات لجنة التحكيم بجدارة.

وبالعودة للجائزة البرونزية، فقد كانت من نصيب الفيلم السوري «علاقات عامة» للمخرج سمير ذكرى. الفيلم كما جاء تعريفه في كراس المهرجان يقول: إنه علاقة خاصة بين امرأة ورجلين، المرأة مرشدة سياحية، تقود وفوداً سياحية تضم أناساً من مختلف البلاد لتريهم المعالم الأثرية السورية، والرجلان: الأول هو رجل أعمال ذو سلطة وجاه متزوج بالسر من المرشدة السياحية ويطالبها بإسقاط الجنين الذي تحمله في أحشائها منه، والآخر تلتقي به المرشدة في إحدى جولاتها السياحية، فتقع في حبه، إذ تبدى لها رجلاً خفيف الظل، خدوماً ومتواضعاً، لكنها تكتشف أن هذا الرجل الآخر ليس سوى صورة مصغرة وكاريكاتورية عن زوجها السري رجل الأعمال.

وكما ذكرت في البداية، وباعتباره الفيلم السوري الوحيد الذي تهافت عليه الجمهور بأعداد هائلة فسنخصص له حيزاً أكبر.. الفيلم لاقى ما لاقاه من انتقادات حتى من مخرجه الأستاذ سمير ذكرى الذي انتقد الصوت بقوله: «مازلنا نحتاج الكثير في مجال الصوت ومجالات تقنية أخرى كما نحتاج تدريب عناصر عليها».

أما من حيث فكرة الفيلم فقليل من الزملاء توصلوا إلى فهم فكرته الرئيسية ومنهم الزميلة ديانا جبور وعلي الراعي.

وهنا أرى بأن المخرج سمير ذكرى ترك الكثير للجمهور والنقاد للاستنتاج حتى عند تقديمه الفيلم في عرضة الأول ذكر بأنها علاقة خاصة جداً، السؤال خاصة جداً كيف؟ البعض انتقد المخرج على الإطالة، وخاصة فيما يتعلق بإبراز الآثار السورية، ولكن مهلاً! لعل المخرج يريد حث السوريين للحفاظ على تراثهم وآثارهم.. ووطنهم.. مذكراً بما حصل في العراق من تدمير للآثار وللمكتبة الوطنية والمتحف الوطني!

ثم وهذا الأهم، ألا تمثل المرشدة السياحية التي تؤدي دورها الفنانة سلافة المعمار سورية بكل مكوناتها «الوطن ـ الدولة ـ الكيان ـ الهوية ـ الإنسان...» ألا يمثل الزوج السري القوي الإدارات والعناصر الفاسدة في الحكومة التي همها الوحيد (البلع) للأخضر واليابس، وربما إصراره على التخلص من الجنين  معناه إصرار هذه الشريحة الفاسدة على استنزاف كل خيرات البلاد وضرب مستقبل البلاد والثوابت الوطنية التي مازلنا متمسكين بها ولو على دمائنا...

أليس الرجل الانتهازي الثاني والذي أبدع في تجسيده الفنان الخلاق فارس الحلو وأعطى نكهة خاصة للفيلم من خلال أدائه الساحر، هو ذلك الليبرالي الجديد المستقوي بالخارج والبائع للأوطان؟ إنها أسئلة كثيرة بحاجة للإجابة عليها لأنها عن أبرزت المستور تحت يافطة السياسي الاجتماعي.

فيلم علاقات عامة جدير بالمشاهدة مع كل المنغصات التي وقع فيه سواء من ناحية الصوت أو حركة الكاميرا في بعض المشاهد. المهم أن الفكرة العامة أو الرسالة وصلت، وغايتها نشر الوعي الوطني والدعوة إلى الإصلاح الاقتصادي السياسي الاجتماعي والديمقراطي.

الفيلم سيناريو وحوار سمير ذكرى، تمثيل فارس الحلو، سلوم حداد، سلافة المعمار، ديمة قندلفت، نجوى قندقجي، جمال قبش، بالإضافة إلى فريق الخرسان الذي يمثل جهة ما أو كما قال أحدهم «المعنى في قلب الشاعر».

جائزة لجنة التحكيم الخاصة

نالتها السينما الإيرانية التي لفتت الأنظار إليها في الآونة الأخيرة عبر فيلم «شجرة الصفصاف» للمخرج ماجد الماجدي، ويمكن اعتبار الفيلم من المدرسة الواقعية حيث يتحدث عن بروفيسور يعلم  الفارسية في جامعة طهران وهو فاقد البصر منذ أن كان عمره ثمانية أعوام بسبب حادث، ولكنه لم يرضخ للواقع وانحساراته، بل تابع حياته بقوة وجلد، إلى أن جاء الفرج على يد أحد أقاربه بإرساله إلى فرنسا للمعالجة وإعادة نظره بزرع قرنية، تنجح العملية ويستعيد البروفسور الرؤية ولكنه يتحول إلى إنسان آخر مختلف تماماً عما قبل، ويتنكر حتى لزوجته ووالدته ويصبح مولعاً ومهووساً بجمال امرأة أخرى، وأخيراً يصاب باضطرابات نفسية تصل به إلى نهاية عدوانية.

وكانت اللجنة قد قدرت في بيانها وبشكل خاص الفيلم الفرنسي «المراوغة» والصيني «رسالة من امرأة مجهولة» والبرازيلي «مذكرات راكب الدراجة النارية» الذي يتحدث عن المناضل الكبير تشي غيفارا، والبريطاني الجنوب أفريقي «فندق رواندا» والإسباني «ساعات الضوء» والتونسي «بابا عزيز» وذلك من خلال المواضيع التي تناولتها والتمثيل والرسائل الإنسانية في هذا الوقت نتيجة ما نعانيه من عدم الاستقرار في العالم وانهيار البنى الاجتماعية.

من وحي المهرجان

● الفنان فارس الحلو لم يحضر افتتاح فيلمه وكان الاعتذار لأسباب شخصية والحقيقة الاعتذار كان نتيجة ملاحقته ومتابعته للدعوى القضائية التي رفعها ضد كل من وزير الإعلام والهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ومنتج أحد مسلسلاته.

● استغرب الحضور ظهور الفنان ماهر صليبي كمخرج للافتتاح والختام بدلاً من عبد المنعم عمايري.

● فنيو الديكور تلاسنوا بالكلمات أثناء حفل الافتتاح، وسرعان ما تطورت الأمور وكادت أن  تفضي إلى أكثر من ذلك لولا تدخل بعض العقلاء وكأننا بحاجة لمزيد من الفضائح.

● بعض الفنانين السوريين قاطعوا المهرجان واعتبروه عيد ميلاد لبعض المشرفين الإداريين على المهرجان.

● شهد عرض فيلم علاقات عامة إقبالاً كبيراً، وعاد المئات أدراجهم ولم يتسن لهم الدخول لامتلاء الصالة الرئيسية عن آخرها.

● كالعادة حصلت مشادات كلامية بين بعض المشرفين وبعض الفنانين في دار الأسد ووصلت بعضها للمحاكم والصراعات والردود الأنترنيتية ما تزال على أشدها، ويقال بأن الفنانين أخطؤوا بحق المشرفين بكلمات لا تصلح لمقامهم «الرفيع».

● الأفلام الأمريكية لم تحصل على أية جائزة (وبدك ما يطالبوا الأمريكان بـ«الحقيقة»  ويرفعوا المسألة للجنة التحقيق للتحقيق مع لجنة التحكيم «يعني صايرة وصايرة» من أجل رد الاعتبار).

●  أحد الضيوف، وضمن إحدى الندوات الخاصة بالعروض قال مازحاً إنه بحاجة إلى عتال ليحمل عنه كراس المهرجان... «يا أخي شي تقيل عن جد»!

تحيا السينما

هكذا كان شعار المهرجان الرابع عشر الذي أعاد بعض الروح للسينما ولكن لأيام معدودات، إذ بتنا لا نسمع بالسينما إلا أيام المهرجانات لذا صدق من قال يجب العمل على إقامته سنوياً بدلاً من كل سنتين لتستمر السينما السورية بأداء دورها الوطني بكل حرية وجرأة وإنتاج الأفضل، والعمل من أجل أن يصبح المهرجان دولياً فعلاً.

■ علي نمر

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.