بين قوسين: أيلول..
فات أو يكاد، ذلك الزمن الذي كان أيلول يحضر فيه إلى ربوع منطقتنا حاملاً في ذيله المطر وبشائر الشتاء والنسائم العليلة والمواسم الخريفية الغنية، وبات هذا الشهر منذ عقود، يحضر متجهماً شحيحاً على الغالب، ولا يقدم إلا الغبار المتطاير من أسرّة الأنهار الجافة ومن الحقول والبراري الموشكة على التصحر.. وعلى سبيل المصادفة، فقد ساءت سمعة هذا الشهر كثيراً بعد ارتباط اسمه بمجازر عمان 1970، وبخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982، ثم بأحداث 2001 في نيويورك وواشنطن التي اتُخذت ذريعة لغزو المنطقة، فأثمرت سريعاً حروباً عدوانية غير متكافئة نتج عنها ملايين القتلى والمعاقين واليتامى والثكالى والمهجّرين، وما تزال تهدد بالمزيد من الموت والخراب والنهب السافر..
بالنسبة للأمريكيين، فقد استقبلوا الشهر، وتحديداً الذكرى العاشرة لأحداثه الشهيرة في الحادي عشر منه، بالاحتفالات تارة وقد انتقموا ممن يعتقدون أنه غريمهم، وبالدموع تارة حزناً على من فقدوا في برجي التجارة والبنتاغون، دون أن يدرك الكثيرون منهم وقد استلبت عقولهم وإرادتهم رأسمالية الاستهلاك والتهميش والتسطيح، أن عدوهم الحقيقي وعدو العالم بأسره، هو حاكمهم نفسه، الذي ما انفك ينهب العالم ليشبع نهمه، ويشن الحروب العدوانية ليتنفّس، ويفتعل الأزمات في مختلف القارات ليبيع الأسلحة، ويستنزف خيرات الأرض ليتجاوز أزمة نظامه المستعصية، وكل ذلك باسمهم وبذريعة تحقيق أمنهم، وهو ما ينمّي حقداً عالمياً عليه وعليهم لن يطول به المقام قبل أن ينفجر، خاصة وأن أعاصير الأزمة تعصف بالنظام العالمي القائم الذي يتزعمه، وتعد باشتداد هبوب رياح الشعوب المغلوبة على أمرها حتى الآن.
أما بالنسبة للأوربيين، فالمسألة مختلفة.. فقد جاء الشهر مكشراً عن نواجذه، حيث واكبه تكشّف المزيد من عورات وسوءات اتحادهم الهش، الموعود بإفلاس وشيك للعديد من دوله الضعيفة التي لم تعد تفيد كل الترقيعات والتقشفات في سد عجزها وتهلهلها، مع احتمال انتقال هذا الداء، الإفلاس والعجز، إلى عمق المراكز «الرصينة» فيه قريباً، وما أحداث لندن إلا مؤشر أولي لما ستكون عليه حال مختلف العواصم والمدن الأوربية في قادم الأيام على خلفية تعاظم الأزمة الشاملة للرأسمالية كنظام قادر على تدمير ذاته بذاته!.
وبالعودة إلى بلادنا.. فها هو الشهر يمر على سورية هذه السنة، وسيول من الدم تسيل في شوارع أزقة مختلف المدن والمناطق السورية وتنذر باحتمالات مفجعة، ورائحة التدخل الخارجي تزكم الأنوف وتتوعد بأسوأ ما يمكن أن يحدث لدولة وشعب..
يعرّج أيلول علينا، ونحن ممزّقون أو نوشك، البعض يهتف للحرية ولا يُرد عليه إلا بالقمع والتنكيل، والبعض الآخر يأكله الصمت والقلق والتوجس والخوف من المستقبل، والجميع ينزف، والجميع يحلم أو يتوهم، والجميع على اختلاف تخندقهم لا يستطيعون أن يحددوا بصورة جلية ما الذي يقسمهم إلى فريقين متخاصمين، أما العابثون بهؤلاء وأولئك، الذين بذلوا كل ما بوسعهم، وجنّدوا كل طاقاتهم لإحداث فرز وهمي ملوث بكل أنواع القاذورات البدائية والمستحدثة ليحافظوا على تسلطهم وفسادهم وثرواتهم السوداء، فما زالوا يديرون، ولو جزئياً، اللعبة الخطرة التي لن تستثني أحداً من الوقوع في دوامتها، بمن في ذلك هم أنفسهم، حينما يشاء اللاعب الكبير المأزوم العابر للحدود والقوميات، أو تفرض عليه أزمته ذلك..
يأتي أيلول هذا العام مشكّلاً برزخاً زمانياً وحدّاً قد يكون نهائياً، بين أن تمضي البلاد إلى استقرارها ووحدتها، أو أن تتهاوى إلى المحظور الذي يمكن من الآن تقدير شكله وطبيعته ومهالكه..
مسؤوليتنا جميعاً اليوم، أن نعيد لأيلول طراوته وثراءه.. أن نجعل منه مناسبة سنوية للاحتفال بوحدتنا الوطنية.. وإلا سيمر وقت طويل قبل أن ينسى الأحياء منا ما سيفضي إليه من أحزان وشجون وجروح عميقة.. عميقة جداً..