غياث رمزي الجرف غياث رمزي الجرف

أيتها السماء.. ضاقت بنا الأرض

(.. الحشد ليس هو «الصحبة» فحيث لا يوجد الحب تكون الوجوه مجرد صور في معرض، ويكون الكلام قرقعة...)

• «فرنسيس بيكون»

(.. إذا أردت التفوق في مجتمعنا عليك بالكذب والرياء، ولا تنس نصيبك من الغباوة والجهل..)

• «أحمد عاكف بطل رواية خان الخليلي» 

يكابد الإنسان على وجه من الوجوه، ولا سيما في الحقبة الراهنة من عصرنا وفي لحظتنا الحاضرة (ولا نعرف إلى متى ستستمر هذه الحالة اللإنسانية).. يكابد من الاغتراب القاسي المرير عن كل شيء (...) حتى الطبيعة بمفرداتها المختلفة لم تنج من هذا الاغتراب (..؟).

حين ينشب الاغتراب مخالبه في الإنسان تصير كل الأشياء منفصلة ومستقلة عنه، غريبة وبعيدة... وفي الوقت نفسه، معاً وفي آن واحد، تهيمن هذه الأشياء عليه، وتتحكم بحياته من ألفها إلى يائها.. ويتحول «العمل»، عموماً، إلى نشاط قسري، قهري، غريب عن الإنسان ومفروض عليه من «خارجه»، ومن ثم يثقله هذا «العمل» ويضنيه ويستهلكه بلا رحمة، وبلا فعالية، وبلا جدوى إنسانية حقيقية.. ولا يجلب له أية سعادة ومتعة، وأي أمل وفرح.. ولا يؤمن له في كثير من الحالات الحاجات المادية الأساسية والضرورية، ناهيك عن الحاجات المعنوية والروحية...

هكذا، ضمن هذا السياق، وأمام القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية والإدارية، والقوى الظلامية.. المهيمنة، المتسلطة والاستغلالية يقف الإنسان محبطاً وعاجزاً..

ويزيده «العمل» شقاء وبؤساً وتخلفاً وتردياً، بل وانحطاطاً.. عوضاً من أن يسعده ويغنيه، ويكون ذاته الفاعلة والمبدعة، وبدلاً من أن يبني العمل شخصية الإنسان «المستقلة» ويطور قدراته وطاقاته وملكاته وقواه المادية والمعنوية والروحية التي يفترض أن يجسدها في (الأشياء) عبر مجرى النشاط العملي.. وبناء على ذلك تضيق مساحة التفاعل الخلاق بين الإنسان وبين «الموضوعات» التي يتوجه نشاطه نحوها، كما يضيق مدى تأثيره الهادف والفعال عليها.

في قلب هذا السياق (وهي نقطة مركزية هامة ومدمرة) لا تتخذ العلاقات بين البشر سواء أكانت بين أفراد المجموعة الواحدة و المجتمع الواحد، أم كانت بين هذا المجتمع وذاك شكل علاقات إنسانية، بل تتخذ شكل علاقات بين الأشياء (..؟!)، ومن ثم يفقد الإنسان إنسانيته، ويتجرد من شخصيته الفريدة وذاته المستقلة، وتدمر حياته، ومفردات وجوده، ويدخل نفق التشوه والأوهام والضلالات والشروخ، كما يدخل دائرة الانقسامات والانكسارات والضياع والوحدة والعزلة.. ويستوطنه الوعي الزائف، لأن الوعي بأشكاله المختلفة ليس شيئاً مستقلاً بذاته عن العالم الموضوعي، فهو، أي الوعي، حتماً وبالضرورة موجه نحو الوجود الإنساني والطبيعي.

عبر هذه المعطيات، وفي سياق هذا الكلام أجد نفسي، وأنا على قيد الحياة مدفوناً، خاصة في هذه الأيام العجاف، في أتون العمل الفارغ ـ على وجه الإجمال ـ إلا من الضجر والسأم والملل والرتابة.. وإلا من الاتكالية والترهل الإداري والتنموي والفكري والثقافي.. والفراغ إلا من الاستلاب والقمع والمصادرة والمخاتلة... وإلا من النفاق والفساد الذي تجاوز ألوان الطيف وتخطاها.. إن الإنسان الذي يحاول، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، أن يحافظ على إنسانيته المحاصرة باستمرار، وعلى كرامته (بالمعنى الشامل لهذه الكلمة) المهددة على مدار الساعة.. كيف لا يدفن حياً؟! ففي «العمل» صار الإخفاق المؤسساتي شارة، وفي «العمل» وغيره أضحى التخلف المتعدد الأبعاد علامة فارقة، كما أضحى «الكلام الحق»، على الأغلب، مفقوداً، وغدا ثرثرة، والمتخلفون دائماً ـ كما يقول أستاذ الفلسفة أنطون مقدسي ـ لا يتكلمون، بل يثرثرون.. ونحن نرى، فيما نرى، أن المتخلفين لا يثرثرون فحسب، بل هم لا ينظرون إلا إلى «الخلف» نظرة «لاعقلانية» و«لا حضارية» و«لا تاريخية»، فالماضي عند هؤلاء، دائماً وأبداً، يحتل حاضرهم «لا بوصفه مندمجاً في هذا الحاضر ومتداخلاً فيه، بل بوصفه قوة مستقلة عنه، منافسة له، تدافع عن حقوقها إزاءه، وتحاول أن تحل محله إن استطاعت...» على حد قول المفكر الدكتور فؤاد زكريا.

وإلى ذلك يفتقد، عموماً، في «العمل» وغيره، العمل الجماعي المشترك وروح الفريق، وتعلو المصلحة الخاصة بأرذل صورها وأقبحها فوق أية مصلحة وطنية أو قومية، أو عامة.. وفوق هذا وذاك ألا يميت القلب والعقل معاً تعاظم وتفاقم وباء الروتين والبيروقراطية والفساد؟ ألا يقتل روح المبادرة، ويذبح أية موهبة من الوريد إلى الوريد، ويحيل أي إبداع إلى أشلاء متناثرة.. ويصبح تحقيق الذات وتقدمها من خلال العمل بصورته القائمة من عجائب الدنيا السبع..؟! وكيف لا تضيق بنا الأرض، وهذه الفردية التسلطية المتضخمة، العاجزة و«النسناسية» في جوهرها.. تجثم على صدورنا، وتحاربنا، بل ترهبنا بوقاحة ودناءة وفجور.. بلقمة عيشنا، ولقمة أطفالنا وعيالنا.. وتجعل من السكون والجمود والتراجع إلى الخلف ناموساً عاماً..؟ وكيف لنا ألا نختنق ونحن في رحاب «العمل» وغيره، نشاهد ونسمع ونلمس هذه الابتسامات الصفراوية، وهذا الجهل المركب، وهذه السلوكيات الحرباوية، وهذه الوجوه القنعة، وهذه الرذائل التي غزت الفضائل مثل غزو أمريكا «الحرة الديمقراطية..» حتى القتل، بلاد جلجامش وحمورابي ومحمد مهدي الجواهري... وكيف لنا ألا نحترق ونحن في «العمل» وغيره، نتكلف، في بعض الأحايين على مشقة وإعياء ورغماً عنا، «مصافحة» تلك الأيادي الباردة باحثين بعدها عن أقرب مغسلة.. وإن كانت هذه ايادي معطرة بأرق العطور الباريسية وأطيبها..؟!

ويحكم الحصار علينا.. يحكم عبر الحياة الخاصة التي هي في معظمها شاحبة.. وعبر الحياة الاجتماعية الكلاسيكية الرتيبة، المملة، الخانقة، وعبر الحياة المادية الاستهلاكية الآسنة، المخادعة والنافقة التي تحول كل شيء بما في ذلك الوطن إلى «جيب ومحفظة» فحسب (..؟!).

ويُحكم الحصار علينا، كذلك، عبر تلك النسوة اللواتي يجلن في الأسواق والحارات والأرصفة.. وفي الأروقة والمكاتب المغلقة.. وفي الأمكنة العامة والخاصة.. يجلن وشعارهن الأعلى: علينا أن «نعيش» وأن «نستثمر» الكرز الذي يولول على شفاهنا، والخمرة المضرجة بالحمرة التي تبرق في عيوننا، والأريج العذب الذي يسيل من بين منعطفاتنا.. وعلينا أن «نستثمر» غدائر شعورنا المنفلتة كالشعر الحر، وأن نرفع ثمن الموسيقا التي تنهمر من أصواتنا وتوحي بغرف النوم المثيرة... وعلينا أن (...).

ويكتمل حصارنا عبر أحشاء البيوت ومحيطاتها، وعبر الشوارع والطرقات والحافلات.. وعبر مختلف صور الحياة العامة حيث الزحام القاحل وذوبان الحدود الفاصلة ما بين الذكورة وما بين الأنوثة (؟)، وحيث الخُطا المتثاقلة والمتدافعة، والوجوه المنسحقة الملامح، والعيون المتهالكة، التي تقف أمامها حائراً فلا هي مفتوحة، ولا هي مطبقة الجفون..؟ ويكتمل الحصار عبر نقيق الضفادع، ونقيق البوم، والضجيج الذي يصم الآذان، والأصوات الحادة القاطعة كالسيوف المهندة، والضوضاء «البلدوزرية» التي تحيل حياتك إلى جحيم... وأنى وليت وجهك ترى رؤوساً مسطحة، وأرواحاً خاوية، وقلوباً فارغة، وترى الترهات والتفاهات والبؤس الاجتماعي والثقافي والسياسي والعاطفي والحضاري..؟!

وماذا بعد..؟ لابد من التغيير الحقيقي في مختلف المجالات والميادين والمحافل.. ولابد من «الثورة» على كل ما هو قائم على الفساد والإفساد وتخريب الإنسان والأوطان..

ولابد في نهاية المطاف إذا أردنا حياة حرة كريمة.. من أن يسمو الإنسان العربي المقهور والمستلب.. في كل الأزمنة والأمكنة، ويتطور على الصعد المادية والمعنوية والروحية، وأن يكون منسجماً ومتسقاً في عواطفه ومداركه وآفاقه.. وأن يصل إلى وحدته وكليته دون انقسام وشروخ.. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إذا ما بقي «الداخل» و«الخارج» في حالة تناقض وتضاد، وبعبارة فلسفية لابد من أن يكون هناك تجانس واتساق بين «الذات والموضوع».

إن السعادة والمحبة والفرح والحياة الدافئة، الحميمة، النظيفة، الكريمة، الحرة وتجلياتها اللانهائية وكل شيء يكمن في «التغيير والثورة» ومن ثم في التجانس والاتساق بين (الداخل والخارج)، بين (الذات والموضوع)، وهذا يبدو في حالة المعمورة الراهنة، وفي هذه المناخات الرديئة بعيد المنال.. لا يمكن القبض عليه، فهو يفر من بين أصابعنا كما يفر العمر منا سدى ودونما أعذار....