قصتي مع الشيوعية (4-4)

  عندما عرف أهلي بانتمائي السياسي بعد انتسابي للحزب بسنوات قليلة، قامت الدنيا ولم تقعد. لأن الشيوعي بنظرهم مجرد كافر، لا يخاف الله، ولا يفرّق بين الحلال والحرام.. وغير ذلك من تهم باطلة سعت أوساط متعددة لنشرها بين جموع الناس. فكانت الضريبة الأولى التي سددتها أن قاطعني أهلي وبدأوا بمحاربتي. وانضمّت إليهم الطائفة التي أنتمي إليها بحكم مولدي. وأصبحتُ منبوذاً من جميع أقاربي. وطبعاً لم يشفع لي سلوكي الحميد، ولا دفاعي عن المظلومين، ولا إيماني بالعدالة الاجتماعية.. بتخفيف الظلم الذي حاق بي.

  والضريبة الثانية والموجعة أكثر كانت اعتقالي لمدة سنتين في أحد الفروع الأمنية، بتهمة ملفقة مفادها أنني عضو في حزب العمل الشيوعي، تعرّضت خلالها لأبشع أساليب التعذيب، دون أن يتجرّأ الحزب على ذكر خبر اعتقالي ضمن سطرين في جريدة (نضال الشعب)! بل حتى أنه أقرّ ضمنياً وأشاع بين أوساط الرفاق بأنني ربما أكون فعلاً بتنظيم سياسي معارض وأتستر على ذلك بورقة انتمائي للحزب الشيوعي، بدليل طروحاتي (المتطرّفة) في الاجتماعات الحزبية!
  لدى خروجي من المعتقل ومعاتبتي لأحد القادة الكبار في الحزب عن تقصيرهم الشديد في المطالبة بالإفراج عني كان جواب هذا القائد: (لا تنسى يا رفيق أننا حلفاء مع البعث، وبلا مؤاخذة، من أجل برغوط لن نحرق اللحاف!) ومع ذلك بلعتُ الإهانة ولم أيأس. وحاولتُ ألا أساهم في تكريس مفهوم أنّ من يدخل السجن يكفر بالسياسة ويخشى من العودة إلى المعتقل. فعاودتُ نشاطي السياسي ولكن بهمّة فاترة، لأن فترة الاعتقال كانت محطة هامة جداً في مسيرتي التنظيمية، اقتنعت خلالها باللا جدوى من الاستمرار في حزب ضعيف لا حول له ولا قوة.
  ولعلّ الضربة القاضية التي هزتني كما هزّت جميع الشرفاء في العالم هي انهيار الاتحاد السوفيتي وبقية الدول الاشتراكية التي كانت تدور في فلكه. وإماطة اللثام عن حقائق كان من المتعذر كشفها، ولعل أبرزها أن شعوب هذه البلدان لم تكن سعيدة أو فخورة بأنظمتها كما كنا نعتقد. بدلالة وقوفها متفرّجة – إن لم تكن شامتة - أمام سلسلة الانهيار الدراماتيكية التي عصفت بأنظمتها. وذلك بسبب الأخطاء الشنيعة التي كانت ترتكبها أنظمة هذه البلدان في حق شعوبها. 
  وهكذا، ملاحظات بالجملة على سياسة الحزب، ووضعه المزري بسبب انقساماته، وتقصيره الشديد بالدفاع عمّن يزعم أنه يمثلهم، وحالة الكسل والاسترخاء التي أصابت قادة الحزب بسبب المزايا والمكاسب التي كانت تقدمها السلطة لهم لإسكاتهم، ونجاحها في ذلك.. أمام هذا الواقع الشاذ والغريب، فإن فكرة مغادرة الحزب بدأت تلحّ عليّ بقوة.
  وفي عام 1992 أبلغتُ رفاقي رغبتي بالاستقالة من الحزب، وطلبتُ منهم استمرار التواصل معي بصلة فردية؛ وكم كانت الصدمة عنيفة عندما وجدتهم مسرورين لقراري هذا، وكأنهم قالوا في أنفسهم: (الحمد لله جاءت منه لا منا) وقطعوا جميع الصلات معي، لا جريدة، لا زيارة، لا علاقة اجتماعية.. باختصار أصبحتُ لاشيء بالنسبة لهم!

  مضت سنوات وأنا أتابع عن بعد تضاريس العمل السياسي في سورية وأنا بحالٍ من التشاؤم من أي فعل على صعيد الشأن العام. إلى أن تولّى الرئيس بشار الأسد مقاليد الحكم بعد رحيل والده. وقام ببعض الخطوات التي أثلجت صدري وأعادت الأمل إلى نفسي. من خلال الإفراج عن عدد كبير من معتقلي الرأي، وإغلاق سجني (تدمر والمزة) السيئي الذكر. والسماح للمنتديات الثقافية والسياسية بالعمل العلني. وغض الطرف عن نشاط المعارضة التي بدأت تطلّ برأسها. والسماح لأحزاب الجبهة بإصدار صحفها وبيعها في الأسواق. وطرح شعارات التجديد والإصلاح وما إلى ذلك.. جعلني أعود إلى العمل السياسي عبر الكتابة الصحفية. وكانت جريدة (النور) أول صحيفة أقوم بنشر نتاجي بها. إلا أن مقصّ رقيبها كان بالمرصاد، معتذرين بأن الصحيفة حديثة العهد ومن غير المعقول إيقاف صدورها من أجل مقالٍ لي يتجاوز الخطوط الحمر. فانتقلت إلى جريدة (صوت الشعب) ولم تكن بأحسن من شقيقتها (النور). فاتجهت إلى صحيفة (قاسيون) حيث أن شروط العمل لديها أفضل بالقياس من شقيقتيها. صحيح أنني لا أتقاضى أي أجر عما أكتبه فيها، إلا أنني راضٍ إلى حد بعيد عن سعة صدرهم معي، وتفهّمهم لنزقي وعنادي، وتغريدي خارج السرب أحياناً. وأعترف أنني مدين لهم على تشجيعهم لي وتحفيزهم.
  أخيراً، قد يلومني البعض بأنني أخطأت باستقالتي من الحزب، وأنه يتوجب عليّ النضال من داخل صفوفه. وقد يعذرني البعض الآخر ويسوّغ لي قناعاتي الأخيرة.
  إلا أنه وفي جميع الأحوال فأمامي طريق واحد هو:
  الاستمرار عبر الكلمة الصادقة والجريئة في فضح الظالمين والانتهازيين وسارقي قوت الشعب.. ومباركة أية خطوة وحدوية بين أي فصيلين يساريين في سورية، وصولاً إلى وحدة كافة القوى السياسية الشريفة والمعبّرة بحق عن هموم وتطلّعات فقراء هذا الوطن الذي يستحق حياة أفضل.