خضر الآغا: علينا كمثقفين نقديين أن نؤسس لثقافة العصيان المضاد
يذهب الحوار مع الشاعر خضر الآغا إلى العمق، ذلك أنه يجمع بين الشاعر والناقد في مزيج خاص.. له في الشعر: «كتب يقول»، «أنوثة الإشارة»، «الجاهلي الذي أنا»، أما في النقد: «البياض المهدور»، «ما بعد الكتابة ـ نقد أيديولوجيا اللغة».. هنا حوار معه.
في مجموعتك الأولى «كتب يقول» بدأت بالتفعيلة لكنك لاحقاً اخترت طريق قصيدة النثر.. إلى أي حد أفادت هذه البداية تجربتك؟؟
أول ما تعلّمت، تعلّمت، شأن الكثيرين، أن الشعر عمودي، وتعلّمت أن القصيدة العمودية هي الشعر، فكتبت وفق ماتعلّمت. وهذه دلالة على حضور التراث في الثقافة العربية حضور السطوة. ولكن، بعد قليل، بعد الاطلاع على السياب والملائكة وتجربة الحداثة الشعرية العربية، أردت أن أتحرر، مثلهم، من قسرية العمود ولاجدواه مع المحافظة على الوزن (التفعيلة، هنا)، فالتفعيلة تمنح شرعية للقصيدة الحديثة، وتبعاً لهذا يصح اعتبارها ابناً شرعياً للعمود الشعري العربي. ولكن عندما عرفت أن القصيدة لا تبحث عن الشرعية بل هي ضدها، ولا يجدر بها أن تكون ابناً شرعياً للنسق العمودي أو التفعيلي، وأنها لسان آخر إلى جانب اللسان الشخصي الذي نمتلكه، مثلها مثل اللسان الأجنبي، ولسان الأقليات، ولسان الهاربين من البنية... وأن القصيدة حالة استعصاء تصيب اللغة، عندما تعلمت ذلك كتبت قصيدة النثر.
لكن، مع هذا، أفادني الوزن في ضبط الجملة الشعرية لدى انتقالي إلى قصيدة النثر، وبالتفكّر باللفظة قبل وضعها داخل الجملة، تماماً كما يحدث في القصيدة الموزونة، إنما في الحالة الأخيرة لكي يستقيم ويتأكد الوزن، أما في قصيدة النثر فلكي يستقيم ويتأكد انحراف اللغة.
يشغل نقد أيديولوجيا اللغة جانباً كبيراً من اهتماماتك، ما سر هذا الهوس اللغوي؟
إنه لأمر مثير أن تنص أساطير المنطقة على أن الخلق يبدأ بـ «الكلمة». لقد كانت «الكلمة» حتى في التوراة «قانون الوجود»، لكن مع تعاظم أهميتها واقتناع الشعوب أكثر فأكثر بها تحولت مع المسيحية إلى «سر الوجود». في تلك المراحل التاريخية القديمة كانت الكلمة مطابقة للشيء تطابق المثلثات، لقد كان الشيء هو ذاته الكلمة. بمعنى: إنه لم يكن له وجود إلا إذا أطلقت عليه اسماً، أي كلمة. ولكن عندما لم تستطع الكلمة رد البلاء عن العالم، وتعرضت لأذى شديد، تمثل في صلبها مع صلب المسيح، أليس المسيح كلمة؟ عند ذاك تحولت الكلمة إلى لغة، وبدأ تململها باتجاه انفصالها التاريخي عن الشيء، وعوضاً عن أن تكون هي الخالقة، أنيط هذا الدور باللغة. كان الشعر الجاهلي والنص القرآني هما الإيذان الأول بمنح عصا التأسيس الوجودي للغة. لكن بدا كل شيء، استفادة مما حل بالشعر الجاهلي، منذوراً للرياح، فكان الإنقاذ بالكتابة، إذ، في المسافة الفاصلة بين الكلمة وبين الشيء تحضر الكتابة لردم تلك المسافة، وتصحيح الوضع المشوش والمضطرب الذي خلفه ذلك الإنفصال. لقد تحولت الكتابة لتكون هي، لا اللغة حسب هيدغر، بيت الوجود. دليلنا على ذلك أن الوجود الذي منحه النص القرآني يختلف جوهرياً عن الوجود قبله. ألم يقسموا التاريخ إلى ماقبل الكتابة وما بعدها، وقسموا التاريخ العربي التقسيم ذاته أيضاً؟ وكلنا يعرف أن الكتابة العربية بدأت مع النص القرآني. هذا ما يجعلني مهووساً باللغة- الكتابة، وحول هذا تدور الدراسة. «لا وجود إلا بالكتابة»... يمكن إثبات ذلك بشكل متواصل.
في كتابك «البياض المهدور» قدّمت قراءة نقدية قاسية للمشهد الشعري السوري..3 ما الإشكاليات الأساسية التي تواجه الشعراء الجدد؟؟
لقد توصلت إلى أن الشعر الجديد (أغلبه) بلا مشروع، بلا ثقافة. ثمة نزعة قوية لديه لتجاوز المنجز الشعري الستيني، فهرب من القضايا الكبيرة التي تسم ذلك الشعر، لكن عوضاً عن تأسيسه قضاياه الخاصة، دخل في الإبتذال، إنه شعر شفوي، قبل اللغة، وقبل الكتابة. إن وقوفه أمام قصيدة التفاصيل دون مواهب كبيرة، ودون ثقافة لحقن هذه التفاصيل بشعرية من نوع ما، حوّل القصيدة الجديدة إلى مجرد تفاصيل تشكل شوائب في الشعر، فبقيت هذه التفاصيل في القصيدة كما هي في الواقع اليومي، فذهبت القصيدة وبقيت التفاصيل، بقيت مجرد تفاصيل مملة ومبتذلة لشدة واقعيتها. في الشعر الجديد نجد قلة من الشعراء مايزالون يعنون بما يسمى قصيدة المجاز ويطورونها، وهذه القلة ذاتها تحقن اليوميات والمهملات الواردة في القصيدة بحقنة شعرية، أي تسبغ عليها ما يجعلها قصيدة. أظن أنه على الشعر الجديد أن يعول على هذه القلة لإنقاذه، إنقاذاً للعابر والزائل وجوهر العالم.
من الملاحظ تأثرك الشديد بالمفكر الراحل بوعلي ياسين ومشروعه الثقافي النقدي، هل تعتقد أن الشعراء معنيون بمثل هذا المشروع، أم هو مهمة المفكرين والباحثين فقط؟
تعلم، أن الثقافة كما هي عصيان، فإنها، أيضاً، عصيان مضاد. في الجانب الأول، لبوعلي ياسين علاقة بمشروعي الثقافي - إذا كان ثمة مشروع- وضمناً مشروعي الشعري. بوعلي ياسين وكتاب آخرون أسسوا لما أسميته ثقافة العصيان، تلك التي جاءت مواجهة للثقافة السائدة، بل أكثر، رغماً عنها. طرح ياسين أسئلة مهمة لم تزل بحاجة لإجابة: أسئلة الواقع الثقافي والسياسي، أسئلة المرأة، وربما السؤال الأكثر أهمية هو سؤال الثقافة الشعبية... هذه الأسئلة لها علاقة بكل مثقف نقدي، سواء أكان شاعراً أم باهتمامات أخرى، والعلاقة بها هي علاقة نقد وتجاوز. أردت أن أقول: إذا كان بوعلي ياسين وجيله أسسوا لثقافة العصيان، فإنه علينا نحن، كمثقفين نقديين جدد، أن نؤسس لثقافة العصيان المضاد.
إن انشغالي بالنص المثقف جعلني دائم البحث عنه. وجعلني أشعر أن هذا النص بحد ذاته بحث: بحث عن علاقات لغوية جديدة، عن علاقات بين بياض الورقة وبين مايكتب عليه، بحث عن الزائل والهارب والمهمش والمقصي، بحث عن اللامرئي وعن البعد الجواني للغة... بهذا المعنى: أليس الشاعر باحثاً، إنما عن النار؟
في كتابك «أنوثة الإشارة» استعملت في موضع الإهداء مفردة «منح» بدلاً من مفردة «إهداء»، هل لهذه اللعبة اللغوية علاقة بالمفاهيم الشعرية الجديدة التي حاول الكتاب التأسيس لها؟.
أحد النقاد قال عن كتاب «أنوثة الإشارة»: إنه برر الشعر الجديد في سورية. أحببت هذا الرأي، واعتبرت أن الكتاب، بتواضع، يستحقه. لقد كلفني هذا الكتاب قراءات كثيرة لم تزل توالي تأثيرها فيّ، واشتغلته بتركيز أفتقده الآن، وبحالة وعي قصوى، وقسمته تقسيمات ذات علاقة بالمعرفي والشعري، ضمن البعد المعرفي والشعري الذي أراه وأتبناه. كذلك فإن تلك التقسيمات كانت بمثابة الأضواء الخافتة التي تضيء، نسبياً، المناطق المجهولة والخفية التي كشفت عن وجودها /أو أسستها القصيدة. أما بالنسبة لـ «الإهداء»: أرى أن مفردة «المنح» أكثر شمولاً من مفردة «الإهداء». الأخيرة تخص الشيء المهدى فحسب، أما المنح فينطوي على الشيء المهدى والذي أهدى وعلى تاريخه الشخصي والعام. أنا أهدي ديواناً، فيما، عندما أمنح، فإنني أمنح نفسي. القصيدة المثقفة تحتاج، حقاً، إلى الكثير من العمل والتأني والطموح.