جهاد أبو غياضة جهاد أبو غياضة

رسائل من ريلكه ويوسا: أيها الناشئ لا تصغ للوصايا

عن دار «التكوين للتأليف والترجمة والنشر» بدمشق، و«منشورات الزمن في المغرب» بالرباط، صدر كتاب «رسائل إلى شاعر ناشئ.. روائي ناشئ» ترجمة وتقديم الأديب المغربي «أحمد المديني».


«رسائل إلى شاعر ناشئ.. روائي ناشئ» كتاب عبارة عن نصين مترجمين لشخصيتين من أبرز الوجوه في عالم الأدب العالمي هما الألماني «راينر ماريا ريلكه» شاعر ألمانيا الأكبر بعد غوته وأحد أبرز صانعي ملامح التجربة الشعرية الألمانية في القرن العشرين، والكاتب الروائي البيروفي «ماريو فارغاس يوسا» أحد أبرز أعمدة أدب أمريكا اللاتينية.

 

الكتاب يتقنع بأدب المراسلات لكنه في الحقيقة أشبه ما يكون بشهادات حرفية في التجربة الأدبية.

يتحد الكتاب بنصيه من حيث الشكل (الرسالة) وشكل الخطاب العمومي وفحواه الأدبية الإرشادية، ووجود مرسل إليه، وان كان عند ريلكه حقيقي موجود معين بذاته، أما عند يوسا فهو مفترض مجازي مقصود به القارئ عموما. إلا أن النصين يختلفان من حيث المضمون والآلية والأسلوب ومنطق السرد والمخاطبة فهو عند ريلكه في ـ رسائل إلى شاعر ناشئ- 10 رسائل مرسلة بين أعوام 1903-1908 إلى ضابط عسكري ألماني اسمه «فرانز كرافر كابوس» بدأ كتابة الشعر وإرسال قصائده وتعليقاته إلى ريلكه ليسمع رأيه ويستفيد من خبرته وتجربته ـ جنوح نحو الذاتي الإنساني وسبر للعوالم الداخلية النفسية والشعورية عبر إسقاطات على الحياة وطبيعتها وتقلباتها وأهم ما يميز هذه الرسائل هو لغتها المرسلة وعمق تجربة الحياة التي تختزنها وتنطق بها سطورها بما يجعلها أكثر من رد في مناسبة تراسل بل إنها تحيلنا على مجمل التطور الذي عاشه وسيعيشه الشعر المعاصر من ريلكه والى ما بعده. فريلكه في هذه الرسائل يقدم خلاصة فهمه لآلية الشعر وصناعته والمفاتيح الضروري توافرها لكل من تتحرك في دخيلته روح الإبداع، لا بأسلوب نقدي كما يشرح في مقدمة الرسالة الأولى «ليس الاهتمام النقدي ديدني ثم إنه ليس أزعج من كلمات النقد لفهم عمل فني»، بل بأسلوب تعبيري تجريدي في البحث عن مكامن الإبداع والحاجة إلى الكتابة وضرورة الالتفات إلى التفاصيل ودلالتها والى الضرورة وطبيعة المصدر في ولادة العمل الفني والحكم على مستواه كذلك نصائحه للرفع من سوية الشاعر وشعريته كجعل السخرية أداة إضافية لتملك الحياة أو بالعيش قليلاً من الوقت بين الكتب، وفي رحاب عالمها كذلك رؤيته لطبيعة الجسد ومفاعيل الغريزة الإنسانية ومحركها الطبيعي (الحواس) ولحقيقة القرب بين الحياة الإبداعية والجنسية وتناوله لمفهوم الوحدة وجوهرها المحرك والسكوني ودورها في حياة المبدع وحديثه عن الحب ومفهومه ودوره «الحب هو الفرصة الوحيدة لأن تنضج، لأن تتخذ شكلا، لأن تصبح أنت عالما لحب الكائن المحبوب»، ومقاربات الأحزان والمستقبل وتعريفه «إن المستقبل هو الداخل فينا على هذه الشاكلة ليتحول في جوهرنا قبل أن يأخذ شكله هو»، وعن المصير المنبثق من داخل الإنسان عن ضرورة تقبل وجودنا في كليته ما أمكن عن المعرفة والاختيار وكل ذلك بأسلوب تحليلي فلسفي ينحو إلى التصوف في بعض مكامنه والى الواقعية المفرطة في مناحي أخرى.

أما يوسا صاحب «المدينة والكلاب» و«امتداح الخالة» فهو بـ«رسائل إلى روائي ناشئ» يسهب في الشرح الأكاديمي المدعم بالشواهد والأمثلة التي تتحدث عن الرواية حصراً بإسقاط على بعض مفاصل الحياة ولكن من أجل خدمة غرضه بالكشف عن تجليات الرواية وانبعاثاتها وذلك على نمط محاضرات في التشريح الروائي من حيث المضمون لكن على شكل رسائل، وهنا تظهر الحرفة الروائية عند هذا الروائي الفذ بكيفية تقديم هذا السرد التعليمي المنهجي فهو يبدأ روايته بقصة عن رسام فرنسي ليصل بنا إلى نتيجة مفادها «أن الروائي يتغذى من ذاته وأن الكتابة هي العبودية المختارة بحرية التي تجعل من ضحاياها المحظوظين عبيداً». لينقل وتحت اسم الغول إلى المحاضرة الأولى ومناقشة اللبنة الأولى في البناء الروائي وهي «كيف تأتي المواضيع إلى تفكير الروائي؟» إطلاقاً من كل ما رقم ذاكرة الروائي وأثار حسه الإبداعي في مناقشة للمواضيع والتيمات وصولاً لكون الروائي لا يختار مواضيعه بل هي التي تختاره.

ثم ينتقل إلى نقاش موضوعة سلطة الإقناع في شكل الرواية أو القسم المحسوس من الرواية ليصل إلى نتيجة أن الروايات الجيدة تمثل بفاعلية شكلها سلطة إقناع لا تقهر أي بتقليص المسافة بين التخيل والواقع.

وبعد ذلك ينطلق لشرح المقوم الأساس للشكل الروائي وهو الأسلوب أو اللغة الروائية وتجاوبه مع ضرورة الإيحاء لا اتسامه بالصواب وعدمه، ليليه الحديث عن السارد والفضاء أي ضمير الراوي وتقسيماته وتسمياته.

ومن هنا ينتقل للحديث تحت اسم الزمن الروائي للحديث عن التركيب بين الأزمنة الحية والميتة أو المتعدية الذي يحدد وجه الزمن الروائي ثم عن مستوى الحقيقة في النص الروائي، وهو علاقة اللقاء والتركيب بين الحقيقة حيث يوجد السارد والحقيقة أي حيث تجري القصة. وهنا يدخل في شكل البناء الروائي حسب طرق اسماها الصندوق الصيني أو الدمية الروسية وهي الطريقة التي تعتمد بناء القصة في شكل مواد فلكلورية تحتوي على أشياء متشابهة من حجم اقل في تعاقب يستمر أحيانا إلى ما لا نهاية كقصتي «ألف ليلة وليلة»، و«الحياة الوجيزة» لـ(خوان كارلوس أونيتي).

ثم بالحديث عن العنصر الخفي ودوره في البناء الروائي ودلالته لينقلنا إلى آخر المحاضرات بتقنية الأوعية المتواصلة وهي عبارة عن حلقتين أو أكثر تجريان في أزمنة وفضاءات أو مستويات للحقيقة مختلفة وتتوحد في كلية سردية بقرار السارد، من أجل أن يتمكن هذا التجاور أو الاختلاط من تعديلها الواحد بتأثير من الآخر مضيفاً لكل منها دلالة.. وأن المجال النصي الذي تظهر فيه البراعة الحقيقية باستخدام هذه التقنية في القصة القصيرة.

ليختم الرسائل/ المحاضرات بشرح لأسلوب النقد وصولاً إلى نتيجة أنه من المستحيل أن نعلم أحداً كيف يبدع، وأقوى ما نستطيع هو تعليمه القراءة والكتابة.. لينهي يوسا رسائله بجملة تحيلنا إلى النهايات الروائية وهي «أيها الصديق العزيز الغاية من كلامي أن تنسى كل ما قرأت في رسائلي عن الشكل الروائي وأن تعكف مرة واحدة على كتابة الروايات».

 هذه الرسائل لريلكه ويوسا عبارة عن تأملات عميقة في طبيعة الأدب والإبداع وماهيته مصاغة ضمن لمحات فكرية ذاتية فنية فلسفية عند ريلكه، ونظرية تجريدية عند يوسا، ولكنها نابعة من تجربة ضخمة في الكتابة والحياة وكل ذلك ضمن رؤى فلسفية وجدلية للواقع المحسوس والتمخيل.. للحقيقي والروائي.. للشعري والسردي..