إبراهيم الجرادي إبراهيم الجرادي

الحنين مشفوعاً بنفسه!

 قاسيون: تلةٌ وجبل، رمزٌ وتأويل، شكلٌ ومبنى، استعارةٌ ومجازٌ، وما بينهما متروك للبصر والبصيرة. وللكتابة في «قاسيون» عن «قاسيون»، دلالة ومعنى، ففي ذلك استحضار، ولو على استحياء! ولما هو أبعد من ذلك، ففي سنوات اليفاعة النارية الجسورة، حيث كان «الاتحاد السوفيتي»، موئلاً يرتجى، كان قاسيون رمزاً الحلم أبعد من دلالة المكان، وأبعد من التوصيف أو الإشارة، تلك التي كانت تأخذ أشكالاً متعددة للتعبير عن رغبة، ليس في «إصلاح» الوطن فحسب، بل في إصلاح العالم، وإعادة تأثيث سكناه بالعدالة والحرية والفن.

الأمثولات التي كانت تمغنط جيلاً بكامله، وقد ظهر ذلك في دوريات، يصدرها الطلبة السوريون الدارسون في أصقاع الدنيا، تحمل الاسم نفسه، تحديداً لرغبة جامحة في أن يكون «قاسيون»، موقعاً يطل على الأمل، وقد كان أملاً مفقوداً على ما يبدو، مثلما يطل على دمشق التي لم يظهر على أطرافها، آنذاك، على الأقل المبشر الإنسان، فاكتفى السائرون إلى الحلم، بالتذكير دائماً بأن قاسيون ليس تسمية لـ«جرائد» حائط، في المعاهد والجامعات، وأماكن الراحة، التي يتسع بها «الاتحاد»الكبير لكل ذي مبتغى، بل هو المسمى الذي يشير، بلا مواربة أو تدليس إلى إمكانية جعل الاضطهاد أقوى بجعله علنياً، على حد توصيف كارل ماركس لا أحد بسواه! وجعل الحياة في هذا المكان من العالم قابلة للتدبير بشكل أجمل وأكثر عدالة.

 

قاسيون يوقظ الحنين، ومثلما يوقظ الحنين الشجن، تستيقظ في القلب أشجار الصفصاف والياسيمن الدمشقي، لتصبح التفاتة القلب غناء يشبه الحسرة التي تمتد وتمتد كلحظة مايكل أنجلو الطويلة كحبل الغسيل! إن شيئاً ما يشبه الأسى، شيئاً غامضاً وواضحاً يشير إلى أجمل ما في العمر من أوقات: سنوات الصبا، واليفاعة اليسارية المحتدمة بالتفتح ووميض القلب وعذوبة الأشياء في حلوها ومرها، أما يكفي هذا لأن يلتفت القلب مكسوراً إلى هناك، حيث قمة الجبل تدس أضواءً تستولي على الأسئلة وتشير إلى دلالة المكان.

قاسيون: تفاحة ترابية على غصن أجرد، أفق نائم ومطر يتثاءب برذاذه. وفي قاسيون يخضر حتى الأسى والمعاني تكتب نفسها لتحقيق عدالة الأفكار. ومن قاسيون ترى دمشق، ليشتعل الحنين كالمواقد الملتهبة في الليالي الشتائية الباردة:

حنين مضمر وظاهر، مجرد وملموس، بهي وغامض، مرح وشقي، حنين إلى خفة خشف يتهادى على رصيف مثقل بأنوثة باهظة، تستثمر سطوتها في ساعات الصباح الأولى، وفي سهرات آخر الليل وعليك أن تلتقظ من بين الحصى الكثيف، زهرة النبع البارد، الذي يأخذك ماؤه إلى ظهيرة جزرواية، علية شمسها، تقسم سماءً بيضاء إلى قسمين: أنوثة طاغية تلملم النساء فيها الأشواق كالحصيد، ليصرخ الفتى اليماني فيك: أي عود ثقاب سيشعل الغابة. وذكورة مدحورة تنسحب إلى حيث الشعر وأميرات الكلام!

قاسيون: كلما ابتعد اقترب، وما أن تطأ قدما الفتى - الشيخ أرض المودة والحلم والخيبة، حتى يهتف الفتى المدلهم بالتأويل:

هذا ماؤها فكيف نساؤها.

أعنّي يا رب!