محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

من ديالكتيك ماركس إلى ثنائيات ماني (دروس في الميتافيزيقيا)

يروي الباحث التراثي الكبير هادي العلوي حكاية طريفة عن مسؤول في حكومة اليمن الجنوبي كان يعلق على جدار مكتبه لائحة بالدرجات التي نالها في امتحان دراسة الماركسية في الاتحاد السوفيتي، وما لفت نظر العلوي في تلك اللائحة أن المسؤول اليمني قد حاز على درجة 100% في مادة الديالكتيك، مما يثير السؤال التالي: هل كان ماركس نفسه سينال تلك الدرجة لو أنه خاض إمتحاناً جدياً في الديالكتيك؟!!

وبغض النظر عن هذا التفوق منقطع النظير الذي حققه صديقنا اليمني على مؤسس الديالكتيك المادي، فإن أكثر ما يثير انتباهنا في هذه النكتة هو اقتران نسبة الـ«100%» بمفهوم الديالكتيك، حيث أن الدلالة القطعية التي تثيرها تلك النسبة لدى الحديث عن ظواهر الطبيعة والمجتمع والفكر تحيلنا إلى أسلوب ذهني معين  لـ«امتلاك» العالم فكرياً بدلاً من محاولة «تحليله»، وهو الأسلوب ذاته الذي تقوم عليه أنماط التفكير الأسطورية والسحرية والدينية، حيث يتم حشر العالم في قوالب عقلية ضيقة وقطعية الحكم، تحتكر «الحقيقة» في ذاتها ولذاتها، مضحية بكل حركية العالم وتعقيده وتداخل ظواهره، وبهذا تصل إلى راحة اليقين والإيمان، وتستطيع تقييم كل ظاهرة بمنطق 0% أو 100%.

وإذا كان لهذه الأساليب في التفكير شرعيتها في زمن ما، فإن الطامة الكبرى تكون عندما تتلقف تلك البنى الذهنية الإيمانية مفاهيم مثل «الديالكتيك» لتدمجها في نسقها الفكري، وهكذا تصبح الأضداد التي يحويها العالم مجرد ثنائيات ذهنية مجردة يتناقض كل طرف من طرفيها مع الآخر تناقضاً قطعياً مطلقاً، وغير قابل لتركيب أعلى، فنغدو أمام بناء فكري شديد الشبه بالمانوية القديمة ذات الثنائيات الشهيرة المتميزة بنقائها ومطلقيتها وعدم قابليتها للتمازج والتركيب (نور/ظلام، خير/شر).

بهذا النمط وحده من الماركسية المانوية يمكن لطالب أن ينال درجة 100% في منهج لا يقبل القطعية، ولا يحتمل الحديث حتى عن وجود عقل ديالكتيكي خالص، أو أسلوب تحليل ديالكتيكي بنسبة 100%.

ولعل ما نشر في جريدة «قاسيون» في عددها رقم 422 تحت عنوان «المراكز الثقافية الأجنبية... رأي آخر»  هو مثال جيد على راهنية الطرفة التي استهللنا بها حديثنا، حيث ندرك من خلاله جيداًُ أن النموذج الذي يمثله ذلك المسؤول اليمني مازال حاضراً في أيامنا رغم مرور كل تلك السنوات، وأن المانوية ليست ديانة منقرضة إلى الحد الذي نتصوره. ففي تلك المقالة التي تدعي فهمها لديالكتيك العلاقة بين الثقافي والسياسي، وقدرتها على تحليل ظاهرة معينة ضمن سياقات تاريخية مختلفة، نرى الأسلوب ذاته في التعاطي والتفكير، حيث يصبح «الجدل» تناحراً وجودياً مطلقاً... أو «تناطحاً» أبدياً إذا صح التعبير.

تنطلق المقالة في البداية من قياس صوري شديد التبسيط: الاستعمار شر مطلق... الإرساليات التبشيرية ربيبة الاستعمار... إذاً الإرساليات التبشيرية شر مطلق دمر إمكانية «ظهور آلاف من منتجي الفكر والعلم، وتكوين حالة ثقافية متمايزة بنسفها للشروط الموضوعية المنتجة لهذا التمايز».

 وإذا تساءلنا عن الوقائع التاريخية التي اعتمدت عليها المقالة للحديث عن إمكانية ظهور آلاف منتجي الفكر في تلك الفترة موضع الدراسة، وعن وجود شروط موضوعية تم نسفها لتكوين حالة ثقافية «متمايزة» من داخل بنية اقتصادية- اجتماعية- فكرية جامدة تعيد انتاج نفسها بشكل مطابق منذ القرن الخامس عشر الميلادي؛ فسيكون الجواب أن هذا الحكم لا يعتمد على أية وقائع تاريخية، بل هو نتيجة قياس صوري تبسيطي آخر هو: كل ما لا يجلبه الاستعمار خير... توجد بنية اجتماعية- فكرية محلية لم يجلبها الاستعمار... إذاً هذه البنية بنية خيِّرة تحوي في ذاتها شروطاً موضوعية لحالة ثقافية «متمايزة» (ولا ندري حتى الآن ما المقصود بـ«التمايز»).

بالنسبة للعقلية المانوية المتمركسة يغدو ما قاله ماركس نفسه (لدى تحليله نمط الإنتاج الآسيوي) عن الدور الإيجابي موضوعياً الذي لعبه الاستعمار البريطاني في الهند، عبر قيامه بتفتيت البنى الاقتصادية- الاجتماعية الراكدة التي تعيد انتاج نفسها على الدوام؛ ضرباً من الزندقة البغيضة التي يجب اخفاؤها والتستر عليها (يمكننا بالطبع أن نلتمس بعض العذر لماركس، باعتباره لم ينل في حياته كلها درجة 100% في امتحان الديالكتيك!!). كما يصبح من المستحيل فهم كيف يمكن لبطرس البستاني (خريج الأرساليات) أن يفتتح في بيروت أول مدرسة وطنية قلباً وقالباً، وكيف يسارع الشيخ طاهر الجزائري (أحد رموز الثقافة التقليدية) إلى افتتاح المدارس الوطنية ذات التوجه التنويري في دمشق تحت ضغط التحدي الثقافي الذي طرحته الإرساليات.

إن سعي هذين الرجلين (وهما مثالان شديدا الدلالة عن رجالات التنوير في ذلك الزمن) لإنتاج ثقافة وطنية «متمايزة» حقاً، بتأثير من الصدمة السياسية- الاجتماعية- الثقافية الكبرى التي فرضها الاحتكاك بالغرب، وبعد أن أدركا أن البنى التقليدية الراكدة لم تعد قادرة على الاستمرار بالحياة بعد تلك الصدمة... هذا السعي غير مفهوم بالنسبة للعقلية المانوية، مادام هناك شر«هم» المطلق وخير«نا» المطلق اللذين لا يمكنهما التمازج بسبب تناقضهما القاطع!!

أما الحديث عن ظهور تركيب جدلي ما، تمثل في المشروع الثقافي الوطني التنويري «المتمايز» الذي صاغه أمثال البستاني والجزائري من جدل «الأنا» المحلي مع «الآخر» الغربي الاستعماري، والذي كان بإمكانه أن يخلق  ثقافة وطنية حقيقية لولا فشل مشروع الدولة الوطنية (لأسباب ليست كلها خارجية)، فما ذلك الحديث إلا هراء سخيف يلفقه بعض المثقفين الفارغين (وربما العملاء)!!

في قسمها الثاني، تمد المقالة «تحليلها» ليشمل المراكز الثقافية الأجنبية المعاصرة،  وبالأسلوب نفسه تحاول إقناعنا بأنه لا جديد تحت الشمس، وأن استراتيجيات الهيمنة الفكرية لم تتغير في عصر العولمة و«الفوضى الخلاقة» عما كان سائداً في عصر الاستعمار الكولونيالي.

إن هذه الخلاصة طبيعية في العرف المانوي، لأن «الشر» أو الاستعمار الغربي يجب أن يتحول إلى جوهر بسيط ساكن لا يتغير حتى يمكن استيعابه ضمن الثنوية المانوية. ولا معنى بعد ذلك للحديث عن أن المشروع الإمبريالي المعاصر، والذي يسعى إلى  تفتيت مجتمعات المنطقة إلى مكوناتها الأولية، لا يعير الكثير من الاهتمام لتكوين فئة مثقفين تابعة عضوياً له، لأن أبطال الشرق الأوسط الجديد (زعماء الطوائف وشيوخ العشائر وأرباب العائلات الكبرى) لن يعطوا المثقفين (بالمعنى الحديث لكلمة «مثقف») دوراً عضوياً ضمن تكويناتهم الاجتماعية السابقة لنشوء الدولة والمجتمع الحديثين (وهما الحاضن الوحيد للمثقفين العضويين)، حتى لو اهتم البعض منهم بتجميع بعض مثقفي البلاط حوله على سبيل الزينة والبهرجة.

ومهما كان دور المراكز الثقافية الأجنبية محدوداً وصغيراً، ومهما كان موقعها ثانوياً ضمن المخطط الإمبريالي، فهي غول مرعب ينظم عمليات التجسس، ويقيس درجة حرارة المجتمعات، ويدعم كل صرعات الفن «الحداثوي» المنفصل عن الواقع... لأن الشر شر، والخير خير، وعلينا دائماً التزام الحذر الشديد!!