الإنتاج الثقافي.. والحلول الوسط
يعد البحث عن التسويات، سمة من سمات العمل السياسي، وطريقة من طرق حل الأزمات السياسية أو تأجيلها. ويكون ذلك من خلال محاولة التوفيق بين الآراء والمصالح المتناقضة، أو الوصول إلى ما يعرف بالحل الوسط، ولا شك أن المثقف أو المفكر سيجد نفسه مضطراً للدخول في مساومات أو نقاشات توفيقية كهذه عندما ينخرط في ميدان العمل السياسي المباشر. ولكن ماذا تكون النتيجة عندما يسحب المثقف آليات العمل السياسي هذه، لكي يمارس الإنتاج الثقافي والفكري من خلالها؟
يمكن للمتابع ملاحظة أن الكثير من المثقفين العرب يمارسون إنتاج الوعي والفكر والثقافة، بمنطق توفيقي يفسحون المجال فيه للتنازلات الفكرية المقنعة بقناع الوسطية وقبول الآخر، فيتورطون ذهنياً في البحث عن حلول توفيقية، لما يمكن أن يثير نقاشه من مسائل فكرية خلافية، بحيث تصبح غاية الإنتاج الفكري، التوفيق فكرياً بين تيارين متناقضين، بدلاً من التركيز على البحث عن الحقيقة، وبدل العمل على تسخير المعارف في إنتاج وعي حر حقيقي بعيد عن المساومة والتنازلات، وأعني التنازلات على الصعيد الفكري التي هي أخطر أنواع التنازلات على الإطلاق.
عندما يعمل السياسي على تحقيق المزيد من المكاسب السياسية، وحصد المزيد من الجماهيرية، لكي يتمكن من الاستمرار في مشروعه السياسي، فإنه قد يكون مضطراً لتقديم شكل من أشكال التنازلات والتسويات في بعض المفاصل والمسائل السياسية والاقتصادية وحتى الفكرية، وذلك إما بهدف المزيد من القبول الشعبي، أو لتجنب عسف السلطة بهدف البقاء والاستمرار.
أما المثقف فإنه عندما يضحي بولائه للحقيقة، وعندما يغفل ما يقوده إليه منهجه الفكري من نتائج، أو يلوي عنق هذه النتائج، بما يمنحه مباركة السلطة أو تسامحها، ويضمن له قبولاً شعبياً أوسع، فإنه يكون قد وقع في فخ التبريرية لممارسات السلطة ومنهجها في الحكم، وفي فخ التلفيقية العاجزة عن تقديم حلول فكرية ونظرية للمشكلات الاجتماعية والثقافية، ناهيك عن تلك الاقتصادية والسياسية.
وعلى ذلك يمكن القول إن ممارسة الفكر بآليات الفكر نفسه، لا بآليات السياسة وأساليبها، ضرورة حتمية للوصول إلى حلول نظرية لمشكلاتنا العربية المعاصرة. وهو ما عبر عنه د.نصر حامد أبو زيد بقوله «إن الحاجة إلى قطع الحبل السري الواصل بين السياسي والفكري باتت قضية نكون أو لا نكون».
إن ممارسة التوفيقية في إنتاج المعرفة تحت شعارات الوسطية وقبول الآخر، وعلى الرغم من حسن النوايا الذي يقف خلفها في الغالب، هي اعتداءٌ على الفكر نفسه، لأنها تجرده من منهجه وآلياته، وتحرفه عن هدفه الأساسي الذي هو البحث عن الحقيقة. كما أنها لا تنطوي على قبول للآخر، بقدر ما تنطوي على عملية خداع ومراوغة لا توصل إلا إلى المزيد من التعمية على الفكر الحر، والى المزيد من إبعاد الحوار والجدل الفكري الحقيقي عن إمكانية تحقيق أهدافه المنشودة، في الوصول إلى الحلول الحقيقية لأزمات المجتمعات المتصاعدة التي تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم.