قراءات تاريخية... بداية النهاية.... حين يستغلون الدين لمحاربة الدين....
غريغوريوس ابن العَبري «وعبره قرية في الجزيرة العليا ولا علاقة لها بالعبرانيين» مؤرخ سرياني كبير ورجل سياسة ولاهوت ومؤلف كتاب معروف في التاريخ هو: تاريخ مختصر الدول توفي بعد سقوط بغداد بيد هولاكو وتهديم الحضارة العربية والإسلامية فيها بقليل... في كتابه ذاك ترد فصول... ونكت كما يقول: أي أحداث تستحق التأمل والتفكير واستخلاص العبر... ونلمح فيها نبوءات وإرهاصات وتعليلات مضمرة لأسباب سقوط دولة الخلافة العباسية... الدولة القائمة على الظلم والتمايز الطبقي تحت ستار الإسلام السمح دين العدالة والرحمة والمحبة.... تستحق أن تكون درساً للحاكمين والمحكومين في العالمين العربي والإسلامي الذين لا يعلمهم التاريخ شيئاً...
يقول ابن العَبري تحت عنوان فصل... "وكان في الأيام الناصرية (يقصد أيام الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد) حكيم (قصد مفكر) اسمه عبد السلام بن جنكي دوست الجبلي البغدادي قد قرأ علوم الأوائل وأجادها، واشتهر بهذا الشأن شهرة تامة، وحصل له بتقدمه حسدٌ من أرباب الشر (ولا أظن أن القضية كانت قضية حسد فحسب بل أظن أن الرجل كان يدعو إلى الدين الحق... أي إلى الإنصاف والعدل... فحولت القضية إلى قضية حسد... وإلى قضية زندقة وخروج عن الدين أحياناً أخرى من قبل مفكري التكفير...) فأدففت الحفظة عليه ( الدفيف كالدبيب أي اقتحم زوار الليل من عمال السلطة الظالمة عليه داره في سواد الليل) وعلى كتبه فوجد منها الكثير من علوم الفلاسفة...وبرزت الأوامر الناصرية (أي دولة القمع الفكري التي كانت من أسباب سقوط بغداد) بإخراجها إلى موضع ببغداد يعرف بالرحبة وأن يحرق الجم فيها بحضور الجمع ففعل ذلك وأحضر لها عبد الله التيمي (أحد مشايخ التفكير) المعروف بابن المارستانية وجعل له منبر وصعد عليه وخطب خطبة لعن بها الفلاسفة ومن يقول بقولهم (وهنا بيت القصيد أي أنه جعل يلعن ويكفر كل من يجرؤ على التكفير) وكان يخرج الكتب التي له كتاباً كتاباً يتكلم عليه ويبالغ في ذمه وذم مصنفه ثم يلقيه من يده لمن يلقيه في النار (محرقة نازية ومكارثية للثقافة والفكر).
قال القاضي الأكرم جمال الدين بن القفطي رحمه الله : أخبرني الحكيم يوسف السبتي الإسرائيلي قال : كنت ببغداد يؤمئذ تاجراً وحضرت المحفل وسمعت كلام ابن المارستانية وشاهدت في يده كتاب الهيئة لابن الهيثم (في الفلك) وهو يقول : وهذه الداهية الدهياء والنازلة الصماء والمصيبة العمياء... وبعد تمام كلامه خرقها وألقاها في النار... فاستدللت على جهله وتعصبه إذ لم يكن في (علم) الهيئة كفر وإنما هي طريق إلى الإيمان ومعرفة قدر الله جل وعز فيما أحكمه وأدبره.
ويتابع ابن العَبري قائلاً: واستمر الركن عبد السلام في السجن معاقبة على ذلك إلى أن أفرج عنه سنة تسع وثمانين وخمسمائة. (طبعة الأب صالحاني بيروت عام1890 صفحة 414).
أقول: من شجع على هذه المحرقة للفكر ومن سمح بها؟ إنه النظام الاجتماعي والسياسي والفكري المهترئ في دولة الخلافة العباسية... إنه ليس الخليفة وحده وليس هولاكو وحده الذي دمر بغداد بعد نصف قرن تقريباً من حدوث هذه (النكثة) التي رواها ابن العبري.. إنه ليس شارون وليس بوش اللذين دمرا العراق ويريدان تدمير غيره... إنها الطبقة التي تملك المال وتكدسه ولا تفكر إلا بمصالحها الأنانية وزيادة أرصدتها وتخاف من جماهير شعبها فتعمد إلى زيادة تضليل الجماهير الطيبة الساذجة باسم الدين أو المذهب ثم ترتمي في أحضان جلاديها الإمبرياليين معتقدة أنها بذلك تحافظ على مواقعها الاقتصادية والسياسية وتضمن حمايتهم لها...
منذ أكثر من قرن كان المفكرون العرب أصحاب الفكر التنويري يحذرون هذه الطبقة مالكة المال والنفوذ من نتائج سياساتها على مصير الوطن والحضارة... ومن نتائج استقوائها بكل هولاكو جديد تفرزه الرأسمالية العالمية المتوحشة، وكانت النتيجة دائماً هي نفسها: ازدياد تضليل الجماهير، وتحويل جهودها للوقوف في وجه العدو المتوحش، لتتقاتل فيما بينها كما يحدث الآن في أكثر من موقع في الوطن العربي...
أقول: ليست هناك من دولة خالدة ولا من حضارة خالدة ولا من أمة خالدة، وأحد القوانين التاريخية- وللتاريخ قوانين يحكم بها على الأشياء- يقول : لا تنهار دولة ولا تزول حضارة أو ثقافة بفضل العدو الخارجي... الانهيار يبدأ من الداخل أولاً... فإذا ما انهار الداخل فهل تظنون أنه سيبقى لكم مكان تقفون عليه أو رعية تحكمونها وتضللونها !!!؟
دمشق 5/1 / 2006