الأعمال الشعرية الأولى لمنذر مصري استعادة مشرّفة للبدايات

لممرات متتالية أعيقت تجربة منذر مصري الشعرية، فمجموعته الأولى «آمّال شاقة» لم تصدر إلاّ بعدد قليل من النسخ، وكتابه «داكن» صدر ثمّ منع. وبين أوّل عمل ظهر له «بشر وتواريخ وأمكنة»، والثاني «مزهرية على هيئة قبضة يد»، كان هناك نحو سبعة عشر عاماً، قضاها الشاعر في مواصلة الكتابة، وتطوير نصّه الذي اكتسب ملامح خاصّة، دون أن يتسنّى للتجربة النمو في الضوء، وفي التفاعل الخلاّق مع القارئ، في الوقت الذي صار فيه منذرٌ، كاسم، قد تجاوز حدود إصداراته.

ولعلّ أهمية هذا السفر الضخم تكمن في لملمة أجزاء الشاعر المتناثرة، وتقديمها بشكل منسجم يسهّل الإطلاع على فترة هامة، آلتْ ظروفٌ عديدةٌ، خارجية، ولا علاقة للشعر بها، بأن تحول دون وصول ذلك الصوت الهام، كما يجب، مما شكّل فجوةً في قراءة التجربة ـ وهنا، يمكن القول، إنّ «المجموعات الأربع الأولى»، الصادرة عن دار أميسا بدمشق، بمثابة وصل لما انقطع قسراً.

النصوص الممتدة على خمسمائة صفحة، تظهر ميزات قصيدة صاحب «الشاي ليس بطيئاً»، وأوّلها ماديتها، دنيويتها، حيث يأتي الشعر كائناًَ أرضياً بامتياز، لا يعنى بغير مادة العيش، حتى وكأنه (الشعر) غرضٌ من أغراض عيشنا الضرورية. يقول الناقد محمد جمال باروت في ملحق «شهادات»: «يكاد منذر مصري أن ينفرد في الشعر السوري الحديث بما يمكن تسميته بأرضنة الشعر، أيْ علمنته ودنيْوته، بتجريده من السحر، وبنزع الصورة التي طالما تم تعريف الأدب عموماً، والشعر خصوصاً، من خلالها» ص(501). يقول، تأكيداً على الآنف ذكره، في واحدة من قصائد «آمال شاقة»: «ضيفٌ مثلي يأكل بأذنيه/ ثلاثة أضعاف ما يملأ بطنه/ قليلاً من الموسيقى/ يا صاحب البيت»ص (111).

ومن القيم الجمالية البارزة: السخرية ـ فالقصيدة لديه خط، تهكّمي، بيانيّ متصاعدٌ، يبدأ، كتعيين، من السخرية من الذات، أو رسم كاريكاتورات شعرية، تقوم على مفارقات حياتية، أو حتى على مفارقات في اللغة، وهو ما سيفردُ له مساحة واسعة لاحقاً، في أعمال مثل «مزهرية على هيئة قبضة يد» أو «الشاي ليس بطيئاً».. وأحياناً يصل إلى إطلاق نكتة شعرية، انطلاقاً من فكرة خلق قيم مضادة للسائد، ونكاية بالمحتفّظ عليه.. «ففي بيروت سبح كالإنكليز/ ولم يخجل/ يقرصُ فتاةً من ظهرها/ ويغطس/ فتراه وتصيح: «سرطعون.. سرطعون» ص(153)؟

أمّا القيمة الأبرز فهي الرقّة، رقّة رجل يزاول جماله الداخلي كما لو أنّه وظيفة من وظائف الجسم. وهو ما يعطي نصّه مسحة تأنيث خاصّة، قد لا نجدها إلاّ في نصوص شعرية نسائية. ثمّة امرأةٌ عاريةٌ داخله تلتقط الصّور وتمنحه الغنيمة.

وتتجلى صورة الرقة في سلاسة الجملة، وخفّة العبارة، وحنوّ المفردات الذائبة في نسيج القصيدة: «ليكن الحبُّ قاطع طريقك» ص(305).

بينما يدأب الشعراء على الإشاحة عن أوّلهم، وتناسيه كذكرى سيئة، أو عار يتوجّب غسله، يستعيد منذر مصري بداياته بحبّ، ويضحكُ غير مبال بمن أخّروها كلّ هذا الوقت.

آخر تعديل على الجمعة, 11 تشرين2/نوفمبر 2016 12:08