بين قوسين العنوسة الثقافية
كنت أعتقد أن هذا الصنف من المثقفين قد انقرض منذ عقدين على الأقل. ذلك المثقف المتعالي دون رصيد مقنع، عدا كتب المراهقة السياسية التي غطاها الغبار،
لكن المصادفة التي جمعتني مع مومياء ناطقة، أحيت لدي شكوكاً مؤكدة بوجود مثل تلك الكائنات المتمترسة وراء أفكار قديمة، لا تزعزع يقينيتها أعتى العواصف. كان لديه أجوبة جاهزة لكل الأسئلة، يستلها من ثلّاجة دماغة على الفور، حتى دون أن يفكر بإزاحة الجليد المتراكم عن تلك الأسماك الميتة، أو أن يلقي نظرة عابرة من النافذة، للتأكد من حالة الطقس في الخارج. انتبهت في فورة النقاش إلى علّاقة مفاتيح ضخمة، تتدلى من سرواله المهترئ، فأدركت أن الحقيقة كاملة في جيبه، فلكل معضلة، مهما استعصت الإجابة عنها، مفتاحها الخاص. بالطبع أصابني الصداع بعد دقائق، وشردت عن حنفية الكلام التي فتحها (على الآخر)، وتخيّلت مفاتيح معدنية صدئة، بقياسات مختلفة يستعملها كعكاكيز لشيخوخته الفكرية. يكفي أن يضع ساقاً على ساق، لتأتيك الإجابة من ثلاجة الثمانينيات، وأحياناً من مطلع القرن العشرين. هناك توقّف صاحبنا مطمئناً إلى أن صفير القطارات لا ينطلق إلا بإشارة من أصبعه، وأن الشمس لن تشرق إلا بعد أن يزيح ستارة نافذته التي تطل على زقاق شعبي، اتهم قاطنيه بأنهم رعاع، وأن «الدروس» التي كان يمنحها لهم مجاناً في سهراته الثقافية، ذهبت هباءً، وأن لا أمل يرتجى من هؤلاء الدهماء، فوصل إلى نتيجة لا غبار عليها «ينبغي إبادتهم». قالها باطمئنان من يتناول حبة نعنع لتغيير طعم فمه من رائحة كريهة. فوبيا الإسلاموية عتلة أخرى استند إليها صاحبنا في إسكات خصومه، بمقدمات شعبوية مستهلكة، فأدركت وقتها، بأن للسلفية آباء يساريون أيضاً، لا يقلون شكيمة عن سلفيي اليمين، فكلاهما يطلق لحيته، وإن اختلفا في طريقة تمشيطها، ذلك أن هذا «المثقف» يعتقد جازماً أن الأفكار الخلّاقة، توقفت عند جيله فقط، وكل من أتى بعده «غلمان» لا يفقهون شيئاً في السياسة، وهذا مثال آخر على العنوسة الثقافية!