عولمة عاطفية (1من3)
الشاب الريفي الذي وصل العاصمة للتو، من قريته النائية في الشمال، بحقيبة صغيرة على الكتف، وبضع كراسات شعرية مجهضة، اهتدى أخيراً إلى غرفة في «باب توما» ففي هذا الحي الذي يقع في وسط دمشق القديمة، تنتشر عشرات البيوت العربية ذات الطبقتين والفناء المفتوح، حيث تتوزع غرف عدة في البيت الواحد، وما أن تدخل من باب أحد هذه البيوت المعدة لسكن الغرباء، حتى تكتشف خليطاً عجيباً من البشر، وقد توزعوا على الغرف المتجاورة التي تؤجر مفردة، وأن كان المطبخ مشتركاً. في البيت الواحد، لن تستغرب وجود فتاة ألمانية وأخرى فرنسية وطالباً يابانياً وشاعراً سورياً أو مغربياً.
لكل واحد من هؤلاء عاداته وخصوصياته في صنع القهوة أو الطعام، إذ تتجاور أكواب «الكابوتشينو» و «النيسكافيه» و«القهوة التركية» على رف واحد.
في يومه الأول، شعر النزيل الجديد بالارتباك، وهو يدخل المطبخ المشترك للمنزل، حين وجد فتاة يابانية بنظارة طبية، منهمكة بغلي قهوتها، دون أن تلتفت إلى وجوده، حتى أنها خرجت من المطبخ من دون أن ترد تحيته.
وبعد مرور أسبوع على إقامته الجديدة، كان قد انتهى من ترتيب حياته في العاصمة، ولم يفارقه الأمل من إيجاد عمل ما، في صحيفة أو شركة إنتاج تلفزيونية، بناء على وعود أصدقاء سبقوه إلى هذه المدينة الصاخبة، وحاول مجاراة نمط العيش في «باب توما» فأخذ يرطن ببضع كلمات إنكليزية كنوع من الدخول في «العولمة العاطفية»، وإن كان يتعرض للصد في معظم الأحيان.
هذه الدروس تعلمها من التونسي الذي يسكن الغرفة المجاورة للسلم، وكان هو الآخر عاطلاً عن العمل، بعد سنوات من دراسة الفلسفة في جامعة دمشق، فاكتفى بالتسكع في ليل العاصمة الصاخب وحاناتها، مقابل كل ما يحصل عليه شهرياً من إعانات غامضة، مستفيداً من دروس فيلم «بيزناس» لمواطنه النوري بوزيد، في مرافقة السائحات الأجنبيات بصفته دليلاً سياحياً وعاطفياً، لا يمانع أبداً في سفح أشواقه لكل من يتعرف إليها بالمصادفة.
وهو حين التقى جاره السوري الجديد، قدم نفسه بصفة «كاتب مسرحي» وقرأ له فصلاً من مسرحيته الجديدة بلهجة شامية ركيكة، وبانتهاء السهرة، استلف من صديقه الشاعر الرومنسي بطريقة مؤثرة مبلغاً من المال، بذريعة تسديد فاتورة «الموبايل».
ورغم تردد الشاعر الحزين في تحية جارته اليابانية التي صادفها على السلم أكثر من مرة، إلا أنه انتصر على خجله الريفي أخيراً، واستوقفها، داعياً إياها إلى وجبة من «الثريد» في غرفته، كي تتعرف إلى نكهة الطعام التقليدي لمنطقة الجزيرة السورية. وكم كانت مفاجأته كبيرة، حين وافقت من دون تردد وأجابته بلغة عربية فصيحة «شكراً. من دواعي سعادتي أن أزورك». وبدا الأمر أسهل مما تصوره، حتى أنها تناولت طعامها بلا ملعقة، بناء على طلبه، وانتهيا إلى صداقة حميمة.
الأسبانية المستعربة التي قطنت الغرفة التي غادرتها اليابانية، كانت نموذجاً آخر، إذ أنها هي من بادرت إلى التعرف إليه، ولم يضطر هو إلى إعادة السيناريو القديم نفسه، بل قرأ لها قصائد كان يحفظها من أشعار «لوركا»، واستعادا معاً الفردوس المفقود في الأندلس، خصوصاً أن «باتريثا» من مدينة غرناطة. ومن جملة الأعباء التي فرضها على نفسه إحضار قاموس أسباني عربي، وجد أن من واجبه إجادة هذه اللغة الساحرة، كما عبر لها ذات مرة، وهما يتجولان في أزقة «باب توما» باتجاه «مقهى النوفرة»، على كتف الجدار الشرقي للجامع الأموي.
وفي هذا المقهى الشهير أنصتا إلى الحكواتي الذي كان يروي فصولاً من بطولات الزير سالم والظاهر بيبرس، كما تناولا النارجيلة والشاي بالنعناع.