صفر بالسلوك «إيشَّك أوغلي إيشَّك»
كان كل شيء يسير على ما يرام أثناء صعودنا في الأوتوماتريس أو قطار الشرق السريع من حلب إلى الدرباسية باستثناء وصولنا - نحن الأطفال - بأصوات مبحوحة وحلوق جافة أو ناشفة كما يقولون، ولم يكن هذا لغزاً، فعند وصولنا إلى محطة رأس العين كان الباعة يعرضون البضائع التركية
وكان آباؤنا لا يشترون لأنهم ببساطة يكرهون الأتراك، ولكننا - - نحن الأطفال - كنا نحب البندق التركي وزجاجات العطر الملون التي على شكل جوامع، وكنا نجبر أهالينا على شرائها لنا بالبكاء حيناً وبالتمرغ على أرض محطة رأس العين حيناً آخر، وكان أهالينا يرضخون لطلباتنا ويشترون لنا أكياس البندق وزجاجات العطور التي على شكل مساجد، ولكن مقابل أن ننفذ أوامرهم.
يجتاز الأوتوماتريس المسافة ما بين رأس العين والدرباسية خلال ساعة تقريباً، وهي عبارة عن شريط حدودي يقف الجنود الأتراك عنده على طول المسافة. وكنا بعد أن نشتري أكياس البندق وزجاجات العطور التي على شكل مساجد، نقف على نوافذ الأوتوماتريس بعد خمس دقائق على إقلاعه، ونمد رؤوسنا - نحن الأطفال - ونبصق بشكل موحد على الجنود الأتراك لمدة ساعة حتى نصل إلى الدرباسية، وبالإضافة إلى البصاق كنا نهتف بالتركية وبصوت واحد «إيشك أوغلي إيشك» للجنود الأتراك الواقفين على حدودهم، وهي تعني بالعربية «كلب ابن كلب»، وكان الأطفال الذين لا يشتري لهم أباؤهم البندق والعطور لا يبصقون ولا يشتمون كي يصغّروا أهاليهم أمام الآخرين الفخورين بأبنائهم الشجعان، وعند وصولنا إلى الدرباسية تكون حلوقنا قد جفت وأصواتنا قد بُحّت.
مرة نزلت من الأتوماتريس وكان أبي خلفي، استقبلنا ابن عمتي وقبلني وسألني عن صحتي حتى اكتشف أن صوتي مبحوح وحلقي ناشف فسألني: لماذا صوتك مبحوح وحلقك ناشف يا كردو؟ فلم أستطع الكلام، فتحتُ الكيس الذي أحمله فرأى البندق وزجاجة العطر التي على شكل مسجد، نظر إلي باحتقار وقال لي «إيشك أوغلي إيشك».