شعراء الجزيرة السورية يتحدثون: كأن قدرهم أن يكتبوا ويشاكسوا الدورة الحبرية في رئاتهم
كأن قدر هؤلاء رسم خريطة الوجع، نقاطاً متناثرة من المعنى تلك المساحة المعنية بهم (الشمال الشرقي) بأبهته، ثمة ما يكثف المتناثر، والمنهوب، والمستلب، في عميم التوتر، خالقاً قلقاً فريداً، وسؤالاً كأنه الأخير في رفد المشهد بشخوص آخرين بينما المكان هو المكان، الملاذ الآمن لحزن أكبر، ولوطن كلما صغر اتسعت حدقة عينه لتسع المشهد، المترامي، البعيد، الأنين والرنين الذي تتركه الحكايات، حكايات العشق، والموت، والسفر والحنين/ المدخل الذي يعيد بعض ذواتنا المتهالكة إلى صوابها ـ بعض شعراء المكان (الجزيرة) ونقول بعض، لأنه كثر وجميلون أكثر مما ينبغي، يكفيهم أن يتحدثوا بصدق، حتى يأتي الكلام، قصيدةً بحساسية موغلة في الأثر والشيء الغائب:
د. أديب حسن محمد
(شاعر وناقد)
(المفتون بأسماك الجغجغ وضفادعه)
عندما نتحدث عن الشعر فإننا نحك معدن الحياة الخافي، ونستلهم القليل المتبقي من أسرار ديمومتها، رغم كل شناعة التفاصيل، لا أذكر وقتاً لانبثاق شعاع الشعر من عمق الخلايا، ولا أذكر كيف تحوّل الولد المفتون بأسماك الجغجغ(•) وضفادعه وسرطاناته السائرة حسب مشيئة الجهات، إلى كائن ساهم في مساحات قامشلي المترعة بهواء السهوب وبحشرجات وعول طوروس الضائعة كدمعة في جدول.
كيف قيّض لتلك الكلمات التي زهدت بإعطاء معانيها ردحاً طويلاً من الزمن أن تسيح هكذا كسيل يدحم في طريقه كل ما يعترضه من أعراف وضوابط.
هكذا.. بمحض الألم.. وجدت شاعراً يسكنني.. يؤرقني كلما تراخت همّة الحب في ضلوعي.. ينتشلني كلما سحبتني أمواج الرتابة من أصابعي الخائرة.
منذ تلك اللحظة الغائمة.. خرجت من جسدي.. غادرتني.. ولم أعد إليّ.. ولم أعثر على أثر يدلّ عليّ.. سوى هذه الكلمات التي تجرح البياض.. وتطارد ذلك الكائن الفار منذ فجر الحبر..
• الجغجغ: النهر الوحيد يمر بالقامشلي، يأتي ملوثاً، ويخرج ملوثاً.
عبد محمد بركو
(شاعر وباحث في التراث)
الموقن بحتمية البياض
«الشعر شغل الأبرياء» هكذا قال «هولدرلين» ذات يوم، وهكذا أردد باستمرار موقناً بحتمية البياض القليل المتبقي للكلمة وسط هذا السواد الحالك الذي يطوق الوردة من كل الجهات.
ولأنّ الشعر الملاذ الأكثر دفئاً للروح يحقّ لنا السؤال:
ـ ترى ما الذي تبقّى من هديل الروح:
ـ إنها الكلمة المجروحة بعويل يطعن قرنفل الحلم.
آه أيّها الشعر
لقد دمرت الحروب والكوارث والكراهية عالمنا الجميل
فكيف لنا أن نحلم بقصيدة أو وردة بيضاء
وسط كل هذا الخراب؟!
محمد أحمد العجيل
(شاعر وصحفي محرر في بقعة ضوء)
/آخر الواصلين إلى حيث الفجيعة/
ـ نكتب رغم المسخ المحيط بنا، وهذا النهب، كأن قدرنا أن نكتب ونشاكس الدورة الحبرية في رئاتنا، ونفوسنا، ربما نكتب لنعتذر من نفوسنا القلقة، وربما ننتقم منها، عندما نشخبط عنها وعليها, فكل ما تعلنه الجزيرة في دمنا لا يكون صالحاً دائماً، وحروفنا لا يمكن أن يفكّ طلاسمها أحياناً إلا من أوتي ريح الوجع المزمن ومحته تلك المساحات الشاسعة ذلك الطفل الذي طالما هذبناه في داخلنا، سأشكر كلّ الذين يموتون معي يومياً، ولا ينزلون ستاراً بيني وبينهم، متحايلين، وهاربين من كلام حق بيننا.
اسماعيل خلف
(شاعر ومخرج مسرحي)
/يعتقد إن القلم بندقية/
أنا أحد السذج الذين أعتقد أن القلم بندقية، وإني سأغير وجه الكون، بعد مجموعتين شعريتين، وعشرات القصص وسبعة وثلاثين عرضاً مسرحياً، وعشرات المقالات النقدية, اكتشتفت خيبتي, بأني لم أستطع أن أغير إلا الأقلام والأوراق وألوان جواربي، ورغم هذا الاكتشاف المتأخر مازلت متمسكاً بسذاجتي، تمسك وراء أسباب أولها كي لا أشعر بالندم على سنوات طوال لو عملت فيها أي شيء غير الكتابة لخرجت بأقل الخسائر.
ثانياً أكتب كي لا أشعر بالوحشة، وأحياناً أستحضر الوحشة والحزن منحازاً لمرجعية كربلائية. ولهذا أبحث عن حرمان أكثر قسوة.
في المسرح أحاول ألا أكون شخصاً ببغاوياً، فألجأ أحياناً إلى فلسفة شخصياتي، رغم قناعة الكثيرين بأن سعادة الإنسان تأتي من عدم فلسفته للحياة.
رغم هذا مازالت أكتب وأنظر بسذاجة إلى كلماتي. فأراها كفقاعة صابون تخترقها أشعة الشمس.