ربّما! مدينةٌ تحمل في الجيب
فعلنا ما بوسع قلوبنا، في السابق, أعطيناها، والكل شاهدٌ ويعرف، اسم الشام، لأنّنا أردنا لها الامتداد على خطوط الطول والعرض. لأنّنا رغبنا في جعلها عالماً واسعاً ورحباً. فما الذي فعلته؟ ظلّت تتضاءل وتصغر حتى بات بالإمكان وضعها في جيب البنطلون. تناقصت الأمكنة العامة من بارات ومقاهٍ، وازدادت الكافيهات من رتبة النجوم الخمس وما فوق، مع علمها الواسع بأحوالنا، فماذا يعني هذا؟ إنّه يعني شيئاً واحداً لا غير، هو أنّها لا تريدنا. وازداد اطراد الضغط أكثر وأكثر، ضغطٌ على معيشةٍ لا تعاش، وضغط على الطبيعة التي لم تعد طبيعيةً، حتى باتت على حافة انفجارها.
كانت تنام باكراً بديدن دجاجةٍ، والآن أصابها الأرق، فصارت تسهر، ويا لها من سهرات ممتعة! أناسٌ على مواقف الباصات بانتظار وسيطة نقل، وفيهم حنينٌ إلى دابةٍ.
نهاراً، نردد المثل القائل (أن تصل متأخراً...الخ)، فلا نتأخّر، ولا نصل، وفي اللاوصول واللاتأخر حتى الهاتف النقال يعنّد، فليس من شبكةٍ.
وليلاً، الخريطة أكثر تمزّقاً، وسائقو التكسي جنرالات يحكمون مصيرنا.
وبين النهار والليل، الغربان على شجر الكينا قرب المتحف الوطني، أدقُّ الصور الشعاعية لنا.. آه.. متى يجيء دوري لأتغربن وأمارس النعيق! متى؟
هذه السنة دقت طبول الكارثة، مبشرة بصيف جافّ، فمنسوب المياه إلى نفاد. لم نأبه، ولئن كان الدور قادماً على الهواء فسوف نشتريه في علبٍ، ونتنفس بالدين، على الأقل، قد نغري منتج أفلام خيال علمي في استثمارنا ككومبارس.
والكهرباء قصةٌ أخرى، أغرب فصولها، دعونا من البيوت، كان انطفاء أضواء الشوارع. أليست هذه علامةٌ أيها المغرمون بتقصي العلامات؟
دمشق اليتيمة!! لا والله، نحن اليتامى، وأبناء السبيل والمساكين والملهوفون، أما هي فقد شاخت، وتفجّرت، دفعة واحدة، أما شيخوختها، وحتى الطلب لن يجد ذلك غريباً، أليست أقدم العواصم؟ إذاً هذا عمل الطبيعة! أمّا اعتراضات الهندسة والتاريخ وعلم الاجتماع، وسواها من علوم، ستكون بلا طائل حين تقع الواقعة.
اللعنة من نصيبنا نحن، الكائنات الغبارية الصغيرة، لأنّ لا هندسة، ولا تاريخ، ولا علم اجتماع، ولا بطيخ حتى، سيأتي على ذكرنا، في حين أنّ المدينة سوف تجد حياةً أخرى، ربما أجمل وأكثر تسلية، في الذاكرة.