رجل المقهى باسم قهار يعيّن أبوحالوب سفيراً في مقهى الروضة
لم يذهب أبو حالوب في طلب الّشهرة، إنّما هي طلبته، رجته أن يمنحها بعض شرعيّة من نظافة وجوده في هذه الحياة، لأنها سئمتْ من قذارات المشاهير، وأيضا،ً من القذارة التي تتم بها صناعتهم.
هذا الرجل لم يضع نظرية تقلب العالم عقباً على رأس، ليس أينشتاين أو داروين. ولم يؤسّس حزباً سياسيّاً فلا علاقة له بكاريزما رجال الأحلام الكبرى ، ولم يدخل بازار ستار أكاديمي، ولا سوبر ستار.. ومع ذلك كتبتْ عنه عشرات المقالات، وذكر في الكثير من الكتب، بما يسيل لعاب الكثير من الكتاب اللاهجين وراء اعتراف من أحد ما بوجودهم، بل إنه كان يكتب النص الذي تتعذر كتابته، كان يكتب حياته ارتجالاً، فيما الآخرون يزوّرون حيواتهم، ويطوبون أنفسهم أبطالاً، وفرساناً.
نكاية بهؤلاء، ها هو ذا يصل الذروة، فيُصنع عنه فيلم سينمائي، ويبثّ في (الجزيرة الوثائقية) بتوقيع المخرج العراقي باسم قهار، لينتقل إلى فئة براد بيت و ميل غيبسون، أو الظواهر الغريبة.
رواد مقهى الرّوضة الدّمشقيّ يعرفونه جيّداً، فهو مداومٌ ،يوميّاً، لاثنتي عشرة ساعةً ونصفٍ، منذ جاء دمشق، قبل ثمان وعشرين سنة،لم يغب خلالها إلا مرتين، أغلق المقهى فيهما استثنائياً، وفي ما تبقى ظلّ ، على الطاولة إيّاها، مقامراً مخلصاً للعبة الانتظار التي يراها الشاعر محمد مظلوم حالة انتماء لجلجامش وهو يبحث عن صديق هو أنكيدو!
يحلو للبعض تسمية طاولته بالمكتب، البعض الآخر يسمونها صندوق البريد،وثمة من يعتبره (مختار العراق الشقيق)، ومهما اختلفت التسميات لتلك الطاولة مكانتها الخاصة في وجدان دمشق، وفي ذاكرة أجيال من العراقيين الذين استطاع أبو حالوب أنْ يعيد لمّ شملهم في تاريخ من الغربة لا آخر له، لا بل إنّه كان كمحضّر أرواح يجلب بغداد البعيدة إلى مجلسه، معلناً، دون أن يعلن حقيقة، قيام جمهورية المنفى ، وشعارها الوطنيّ هذه الطاولة، وبتعبير الكاتب معن ديوب استطاع أن يؤسس وطناً أجمل من الذي غادره، ومن الذي جاء إليه.
في الفيلم تحدث عن ولعٍ قديم بالفن السابع، أيام صباه في بغداد، ولعله لم يحسب حساباً لفكرة أن يكون، هو، فيلماً، أجلى صوره تلك التي تتابع لقطات لشفاهٍ، للشاعر و النادل والفنان والصديق، وهي تنطق اسمه كصلية رصاص.
نعرفه، نجلس إلى طاولته، نستعير جريدته،نجاذبه أطراف الحديث، لكننا لا نفكر فيه كشخص وحيد رغم الحشود المحيطة به، رغم كل الذين تضيق بهم طاولته، رغم شبكة علاقاته الدولية، فالحقيقة المرّة التي نعرفها، وندعي الجهل، يعيش كمن في قفر، والوحشة تمتص دمه، ولعل هذه الوحدة هي التي تحكمت بمصيره، وأحالته إلى مدمن انتظار وترقب.وعلى الأرجح لم يتزوج امرأة كي لا تعيقه الشؤون الدنيوية عن إتمام تكريس نفسه قرباناً لكل المنتظرين.
السؤال الذي لازم الوعي، منذ عُرض (سفير في المقهى): كم أبو حالوب فينا؟
■ رائد وحش