محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

تراث التشرد واللصوصية (2)

شهدت مدينة بغداد في عام 196هـ حدثاً لم يكن مألوفاً في التاريخ الإسلامي حتى ذلك العهد، فأثناء الصراع الدموي على الحكم بين الخليفة الأمين وأخيه المأمون، ومع اقتراب قوات المأمون من بغداد لتضع حداً حاسماً لذلك الصراع، بدأت كل المؤسسات السلطوية في المدينة بالانهيار، وأخذ قواد الأمين وأنصاره من الطبقة الأرستقراطية يفكرون بأفضل الطرق لحماية أنفسهم وممتلكاتهم وتسليم مدينتهم بأحسن الشروط لقوات المأمون، في ذلك الظرف العصيب ظهرت لأول مرة الفعالية المستقلة للطبقات الشعبية التي رفضت أن تسلم مدينتها بسهولة، واستطاعت أن تستغل الظروف لكي تفرض كلمتها على الجميع، فانتفضت في وجه قوات الأمين والمأمون معاً، بقيادة أبطال مجهولين لم تذكر لنا كتب التاريخ أسماءهم، ولم تروِ بطولاتهم بحماس شديد، ولكنها تركت لنا عنهم الاسم الشهير الذي ظل عالقاً بالذاكرة الشعبية لعدة قرون وهو: «شطَّار وعيارو بغداد».

يروي لنا ابن الأثير أحداث ذلك العام بتوتر شديد، فقد سادت الفوضى «ونقب أهل السجون، وخرجوا منها، وفتن الناس، وساءت حالهم، ووثب الشطَّار على أهل الصلاح»- وأهل الصلاح حسب ابن الاثير هم تجار بغداد وأغنيائها طبعا- وهكذا فقد نجح أعضاء التنظيمات الشعبية من المعدمين والمشردين بالسيطرة على شوارع وأحياء المدينة، وعلى الرغم من أن قواد الأمين قد تخاذلوا عن القتال منذ المعارك الاولى إلا أن بغداد قد بقيت صامدة لمدة أربعة عشر شهراً بفضل عياريها وشطارها الذين خاضوا أشرس المعارك دفاعا عنها حتى الرمق الأخير.

كان هذا الإعلان المدوي عن مدى قوة تلك التنظيمات الشعبية فاتحةً لعصر جديد في العلاقة بين السلطة الحاكمة والطبقات الشعبية، حيث لم يعد من الممكن على رجال السلطة بعد الآن تجاهل الحالة النوعية التي شكلتها تلك التنظيمات الشعبية المقاتلة، ومع ازدياد ضعف الخلافة العباسية وتدهورها أصبح لتنظيمات الشطار والعيارين دورٌ كبير في الحياة السياسية، حيث انتفضوا ضد السلطة أحياناً، وهادنوها وتعاونوا معها أحيانا أخرى عندما كان رجال الحكم يجدون أنفسهم مضطرين إلى الاستعانة بهم وطلب مساعدتهم، كما أنهم نجحوا في بعض الأحيان في تسلم زمام الأمور والسيطرة الفعلية على حاضرة الخلافة.

ولم يقتصر وجود تلك التنظيمات الشعبية على العراق وحده، فتدهور مؤسسات السلطة الحاكمة قد أفسح المجال في مختلف الأماكن لظهور أشكال ذاتية من التنظيم الشعبي، حيث سعى أبناء الطبقات الكادحه إلى ملء الفراغ الناشئ عن انهيار السلالات الحاكمة وتفاقم حالات الصراع والاقتتال على السلطة، ففي بلاد الشام ظهرت منظمات «الأحداث» وبلغت أوج قوتها مع انهيار الدولة الإخشيدية وتصاعد الصراع بين مختلف دول المنطقة للسيطرة على بلاد الشام، وقد تمكن الأحداث من فرض نفوذهم القوي على الكثير من المدن الشامية، إلى درجة أنهم استطاعوا في بعض الاحيان السيطرة على السلطة وإقامة حكم شعبي محلي لمصلحة الطبقات الكادحة.

ولعل أكثر تحركات الأحداث أهميةً كانت ثورة «قسام الترَّاب» أو «قسيم الزبَّال»، وقد كان قسيم ترَّاباً دمشقياً (أي عامل نظافة بالمصطلحات الحديثة) قاد منظمات الأحداث في مدينة دمشق واستطاع السيطرة على المدينة لما يقارب سبعة أعوام بين عامي 365 و373هـ ، حيث قاوم محاولات الدولة الفاطمية للسيطرة على دمشق وأقام فيها حكماً شعبياً طبقياً، وقد عرف عنه افتخاره بأصوله الطبقية، حيث جعل من أدوات عمله السابق كترَّاب رمزاً يرسم على رايات حركته، وتضامن مع عياري العراق الذين التجؤوا إليه من بطش السلطات الحاكمة، قبل أن تنجح الدولة الفاطمية في القضاء على حركته والسيطرة على مدينة دمشق من جديد.

ضعفت قوة التنظيمات الشعبية على امتداد العالم العربي بعد ترميم الأدوات القمعية للسلطات الحاكمة، وبعد أن نجح الحكام والسلاطين في شراء قادة هذه التنظيمات واستمالتهم إليهم، أو القضاء عليهم عن طريق تنظيم المجازر وحملات الملاحقة والاضطهاد بحقهم، وعادت الطبقات الشعبية تدريجياً إلى موقع المفعول به فاقدةً وزنها النوعي المكتسب، في حين استمرت بطولات «الشطَّار» و»الأحداث» في الحياة طويلاً بفضل الوجدان الشعبي الذي احتفظ بذكراهم على مرِّ العصور.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.