قراءة تاريخية في انهيار إمبراطورية وزوال أمة
في القرن الثالث قبل الميلاد قام صراع مرير في غربي البحر المتوسط بين إمبراطورية تجار مسالمين همهم الأول التجارة والعيش بسلام مع جيرانهم، وهي الجمهورية البونيقية (القرطاجيه) من جهة, وبين دولة ناشئة تقوم على القوة، هي جمهورية روما التي استكملت توحيد شبه الجزيرة الإيطالية، وأخضعت قبائلها المختلفة وشعوبها بقوة السلاح، وأخذت تمد أنظارها إلى خارج شبه الجزيرة للنهب وللسيطرة على حوض البحر المتوسط الغربي تمهيداً للاستيلاء على الحوض الشرقي منه، وانتزعت روما من القرطاجيين شيئاً فشيئاً ممتلكاتهم هنا وهناك قبل أن تنزل جيوشها على أرض القرطاجيين....
وجرت معركة زاما الشهيرة الواقعة في جنوبي العاصمة قرطاجة عام 202 ق.م، وعاد حنا بعل (هانيبال) القائد القرطاجي الشهير إلى العاصمة ليعلن أمام مجلس الشيوخ خسارته للمعركة ناصحاً بتوقيع الصلح، وتم توقيع معاهدة قرطاجة المهينة، وخسرت قرطاجة كل شيء، وأصبحت خاضعة لروما، فقد انتزعت منها روما أملاكها وأسطولها الحربي والتجاري، وفرضت عليها غرامة قدرها مائتا «تالنت» (نحو 200 مليار دولار)، تسددها على مدى خمسين عاماً، وقامت قرطاجة تداوي جراحاتها، وقبل الشعب كل تضحية لدفع الغرامة على أمل استرداد حريته وكرامته بعد انتهاء مفعول المعاهدة.
يقول المؤرخ «ول ديورانت»: (ولكن حكومة التجار القرطاجيين الأغنياء كانت قد بلغت من الفساد مبلغاً جعلها تلقي على كاهل الطبقات الدنيا عبء الغرامة الحربية، بل وأن تختلس جزءاً منها، وطلبت طوائف الشعب من بطل الأمة هانيبال أن يخرج من عزلته لينقذ الأمة من محنتها، واختير في عام 196 ق.م حاكماً عاماً لقرطاجة)
فلما تولى منصبه روع سراة المدينة، فقد حاول أن ينقذ الأمة من الفساد واقترح اقتراحاً يحد من سلطاتهم فلقد كان مجلس الأمة ( مجلس القضاة) يتألف من 104 من الأعضاء [الأغنياء والوجهاء ] ينتخبون مدى الحياة، فجاء اقتراحه ألا يبقى أحد منهم في منصبه أكثر من سنة واحدة، وألا يعاد انتخابهم إلى مناصبهم إلا بعد عام من خروجهم منها، فلما رفض مجلس الشيوخ هذا الاقتراح عرضه على الجمعية العامة فأجازته، وكان من نتيجة ذلك أن نشأ نوع من الديمقراطية لم تعرفه قرطاجة سابقاًً، وحارب هانيبال الرشوة وعاقب المرتشين، وخفف عن الأهلين معاناتهم بتخفيضه الضرائب، ودبر أمور الدولة تدبيراً حكيماً، واستطاعت قرطاجة أن تؤدي الغرامة الحربية كاملة قبل انقضاء أجلها، فدفعها عام 188 ق.م بدلاً من 152 ق.م (في عشرين سنة بدلاً من خمسين سنة)...
ولم يرضِ الأغنياء وأرباب الأموال ذلك، وبعثوا إلى عدو قرطاجة اللدود روما يحرضونها على حنا بعل بحجة أنه يعد العدة لاستئناف القتال وهزيمة روما، واستجاب مجلس الشيوخ الروماني لطلب (زملائهم) وطلبوا منهم تسليم هانيبال لروما، مما اضطره إلى الهرب من بلاده ملتجئا عام 185 ق م إلى إنطاكية عدوة روما، وفيها بذل جهوداً كبيرة للانتصار على عدو بلاده، ولما فشل، تجرع السم ومات محزوناً عام 184 ق.م».
تتردد هذه القصة في مختلف المصادر التاريخية، ولكنها كلها يمكن تعميمها على سائر الممالك والإمبراطوريات والشعوب التي كانت قوية مزدهرة ثم ماتت واندثرت بالآلية نفسها التي انهارت بها إمبراطورية قرطاجة، وهو ما يمكن وضعه ضمن قوانين التطور التاريخية: قيام أمم وحضارات وشعوب وانهيارها وذوبانها، وليس ما تروجه بعض الأوساط جهلاً أو تجاهلاً بأن هناك أمماً خالدة وحضارات لا تزول، و«إن للبيت رباً يحميه» كما قال أبو طالب للغزاة الأجانب القادمين لتهديم مكة وبيتها العتيق!!
قوانين التطور التاريخي التي تنطبق على كل أمة تقول: إن حماية الأمة، حماية أرضها وتراثها وحضارتها، تصنع صنعاً، وكذلك انهيارها وزوالها، بأيدي شعبها وبأيدي حكامها، وإن إرادة البقاء تنبع من قناعات كل فرد ومن صلابته ومن إيمانه بأصالة حضارته وعظمة قيمها، ومثل ذلك إرادة الموت والزوال التي تنبع من شعور كل فرد باليأس والإحباط حين يلتجئ بعض قادته وحكامه حماية لمصالحهم المادية واستجابة لأنانياتهم الفردية ولأحقادهم الشخصية إلى الأجنبي ويستدعونه لنصرتهم على شعوبهم كما يفعل بعض الأعراب الآن فيميتون روح المقاومة والصمود وإرادة القتال والنصر..
ظل شعب قرطاجة مستعبداً من الرومان والبيزنطيين والقاندال حتى جاء الإنقاذ على يد الفتح العربي.
تمعنوا بدور تلك الطبقة الحاكمة التي التجأت إلى عدو قرطاجة اللدود لتحمي ثرواتها ومصالحها وتحكمها في جماهير شعبها، ألا تجدون فيه صورة واقع العالم العربي المعاصر؟! واقع شعوب هذا العالم العربي الكبير المسحوقة والمذلة والمهانة من قسم كبير من حكامها والتي تفتش عن خلاصها عبثاً... لأن فئة من طبقتها الحاكمة منذ قرنين وحتى الآن ربطت مصير الوطن والشعب والتاريخ والثقافة والروح بكيس النقود الذي تحميه حراب الأجنبي ودبلوماسيته الشيطانية: فرق تسد... ادفع الناس إلى قتل بعضهم بعضاً.
إمبراطورية قرطاجة البحرية الكبيرة... الإمبراطورية التي نقلت مع حرفييها وتجارها ومفكريها وبحارتها الحضارة من المشرق العربي إلى شواطئ الأطلسي... الإمبراطورية التي قامت على تبادل البضائع وتبادل الأفكار، وعلى العلاقات الودية بين الشعوب وليس على القوة الغاشمة، قوة الفتح والعدوان، انهارت كلية لسبب بسيط، لأن أغنياءها، لأن الطبقة الحاكمة فيها التي لم تشبع من جني الأموال وتكديسها، والتي تخاف من شعبها أكثر مما تخاف من الأجانب الطامعين في إزالتها من الوجود، التجأت إلى عدوها تستعين به ضد شعبها.. ماذا كان مصير تلك الإمبراطورية ومصير شعبها؟!!
النتيجة أنها زالت من الوجود لمدة ألف عام! يقولون: التاريخ مستودع تجارب الشعوب... ومعلم الجماهير... هذا صحيح، ولكنه لم يعلم أبداً طبقات حاكمة كيس المال لديها أعز من كل شيء. يقول التاريخ: إن موت الأمم وزوال الحضارات يبدأ من الداخل أولا، فلنعمل معاً على تحصين جبهتنا الداخلية، ولنفضح أولئك الذين يلجؤون إلى الأجنبي لحماية مصالحهم، ولنؤيد من يحاربون الفساد والإفساد ويدعون إلى وحدة الأمة..