محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

تراث من ذاكرة النَّكبات....

مرة أخرى تعود ذكرى النكبة لنكتشف أن علينا مجددا أن نقول ونكتب عنها المزيد والمزيد من نفس السطور والكلمات نفسها التي لم تحمل منذ أن حدثت النكبة شيئاً جديداً، دائماً هنالك نغمة التفجع والبكاء على الأرض السليبة والوطن الضائع (اللذين يكتسبان دائما في الوجدان الجمعي السمات الأسطورية والخيالية للفردوس المفقود)، المترافقة مع نزعة قوية لجلد الذات التي تركت الوطن يضيع ويتلاشى، فضلا ًعن التشكي من بغي وعدوان الآخر الذي أوصلنا إلى هذه الحال.

وبعيداً عن هذا النمط من التعامل مع الموضوع، فمن السهل على أي باحث تاريخي أن ينقِّب في تاريخ النكبات العربية ليجد فيها دائماً الخصائص والسمات نفسها التي وسمت نكباتنا المعاصرة دون زيادة أو نقصان، فمعادلات الخسارة التاريخية تتمتع بالكثير من الثبات والديمومة وقد أصبحت ميداناً خصباً للبحث والدراسة منذ أن نبه إليها لأول مرة ابن خلدون، الأب الشرعي لفلسفة التاريخ، وما سنحاول تقديمه في هذا الحيز المختصر ليس أكثر من محاولة لتوضيح شيء من تلك المعادلات، عن طريق تناول مثال تاريخي هو سقوط مدينة القدس بيد الصليبين في عام 1099م.

لم يكن الحيز العربي الإسلامي في فترة الحملة الصليبية الأولى يعاني فقط من التجزئة والخلافات السياسية بين حكامه كما تقول كتب التاريخ التقليدية، فذلك لم يكن سوى نتيجة للتغير التاريخي طويل الأمد الذي أصاب المنطقة منذ سنوات طويلة. في الواقع لم تلقَ تلك الحملة الصليبية التي عبرت سهول بلاد الشام من الشمال إلى الجنوب وسط مناطق تعج بالاقطاعيات العسكرية الكثير من المقاومة الفعالة والمجدية، ولم تكن دعوات الجهاد التي انطلقت من الجانب الاسلامي إلا ردات فعل آنية وموضعية غير قادرة على صياغة فعل مقاوم حقيقي. كانت المنطقة التي عبرتها الجيوش الصليبية إذن منطقةً قد تم افراغها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا من كل مقومات الصمود والمقاومة مما جعلها مؤهلةً تماما لكي تكون ميدانا لنكبة تاريخية كبيرة.

فمن الناحيتين السياسية والاقتصادية تعرضت بلاد الشام في تلك الحقبة إلى هزة عنيفة مع توافد القبائل الغزية-السلجوقية إليها، والتي عاثت فيها فسادا ونهبا وتخريبا لايوصف، وبعد أن استقر الوضع لتلك القبائل الغازية شكلت من نفسها طبقة حاكمة جديدة تسلطت على مقدرات البلاد لتدشن عهدا جديدا قام على أساس النهب المنظم لخيرات المدن والأرياف الشامية الغنية، هذا فضلا عن تأسيسها لنظام إقطاع عسكري مغلق أثبت مع الزمن تخلفه الاقتصادي وعدم فعاليته الحربية.

وقد انعكست تلك الأوضاع على البنية الاجتماعية للمنطقة حيث فقدت الكتل السكانية الشامية تماسكها وقدرتها على الصمود، بعد كل ما تعرضت له من مجازر ونهب وتشريد على يد السلاجقة، هذا فضلا عن تصاعد الصراع الطائفي والخلافات العقائدية التي ترافقت مع محاولة السلاجقة فرض قراءتهم الخاصة للإسلام وتصاعد صراعهم العقائدي مع الفاطميين في مصر. أما من الناحية الثقافية فقد تم تدمير الكثير من منجزات التراكم الحضاري الإسلامي تحت شعار (الإحياء الديني) الذي رفعه السلاجقة، وفُرض نمط فكري واحد مغلق ومتخلف بقوة السيف مما أوقف الحركة الغنية والحية للإنتاج الثقافي التي عرفتها المنطقة، فوجد المثقفون أنفسهم أمام خيارين: إما الاندماج في بنية السلطة السلجوقية الحاكمة أو التعرض لأشد أنواع القمع والملاحقة من قبلها.

وهكذا كانت المنطقة مع وصول الصليبيين قد وصلت إلى درجة كبيرة من الضعف والتشرذم، فلم يجد الصليبيون أثناء تقدمهم عوائق جدية باستثناء المدن المحصنة طبيعيا بحكم موقعها الطبوغرافي كأنطاكية وعكا، في حين سمحت لهم بقية المدن الساحلية بالتقدم ضمن ممتلكاتها بحرية دون أية مقاومة، كما أنهم لم يلقوا ممانعة جدية من السكان الذين انتفى عندهم الدافع للمقاومة بعد كل ما لاقوه على أيدي حكامهم، بحيث أنهم لم يستطيعوا التمييز بين الناهب المحلي والمحتل الخارجي، وفي النهاية لم تجدِ المحاولات الفاشلة التي قام بها الفاطميون لانقاذ مدينة القدس وبقية الأرض الفلسطينية سواءً بالمفاوضات أو بالمقاومة العسكرية، وكان على المنطقة العربية أن تعيش سنواتٍ طويلة في ظل النكبة الصليبية، التي تكررت فيما بعد مرارا وباشكال اخرى ضمن وسط توافرت فيه كل العناصر التاريخية اللازمة لحدوث الهزيمة.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.