عمر كوجري في« إنها الريح» اللحظة الشعرية المتفجرة بالسرد
صدرت ً مجموعة «إنها الريح» للشاعر عمر كوجري مؤخراً، حيث تشتغل على لغة شاعرية بسيطة بصورها وإيحاءاتها المعبرة، سلسة بترادفاتها الإيقاعية، وثمة لغة متداولة تبدو كأنها محكية وهي في حقيقتها فصيحة، ولكن استعمالها الشعري لدى الآخرين قليل، وقد استطاع الشاعر هنا أن يوظفها من خاملها اللذيذ. اللغة تسمو الكلمات فيها، وتنحو إلى سردٍ أنيق، ذاتي حميمي، ويبدو أن السرد الشعري أتى على سجيته بتعبير مكثف، وببلاغة ممكنة، فليس فيه مجانية، وهذا يعني غنى النص في صورته الشعرية.
تسمو اللغة التي تمثل مفرداتها بلاغة وإيحاء دون حشو في انزياحاتها، وهي تأخذ القارئ دون ملل في الكلمة أو في الصورة، رغم البساطة والوضوح في المتن الشعري..« من حقك أن تسندي دمعك إلى حزني / ومن حق الفراشة أن تتكئ على ما تبقى مني ص9 »
لم يلجأ الشاعر إلى التقسيمات المتخشبة المربكة للقصائد الشعرية، ولكن هناك مدخلان : أحدهما بعنوان «أذكر التفاصيل جيداً» والثاني: «من دفتر العائلة» مع إضافة في المدخل الأول لقصيدة بعنوان «حنين الماء» وقد لعب فيها بإيحاءاتها، وحاول تجريب تقنية الاشتغال على بدايات هذه الجملة: ح ن ي ن الخ.. التي لم تغير في شكل روي القصيدة ولم تزدّ شيئاً إليها .
في السردية الشعرية الشاعر وفيٌّ لذكرياته، وإن طالت الأيام، وتعاقبت المواقف والأحداث التي غلبت على القصائد والتغني بها وكأن الغد غير موجود أو إنه لن يأتي بأحسن مما كان، وما مضى كان متألقاً بحبه وشوقه، بنبله واندهاشه بالقلب، وما يعتمل به أصدق من كل الأزمان. وما كان.. كان يصدر عن قلب ملتهب العاطفة صادق الأوار، يتذكرها ممجداً، وليس بكاء على إطلال وشكوى من قدر ظلوم.. يتذكرها ليعيش نسائمها على الدوام كأنها الدواء لداء قلبه العاشق.. المحب للحياة المتمسك بدقائقها، المكلوم بالحب العذري المتبّل مع بعض النخزات الحسية الأيروتيكية.. لأن الشاعر يملك قلباً أخضر متصابياً على الدوام يبحث عن الحب والعشق ليعبر عن الحياة بتجليات الروح معها
« على التخوم القصية/ حيث يقص الهواء حواشي الرغائب/ كانا وحيدين/ وردة بعطرها وبرعمها/ هو ببحر الحزن الذي يتأبطه ص32 »
كما يلاحظ في مجموعة عمر كوجري «إنها الريح» إضافة إلى حس شاعري متدفق تملكه لأدواته الشعرية، متماهياً مع الحس العائلي الجياش الصادق: «لافا.. تأخرت عن العياط في وجوهنا/ سنوات ثلاث..» ص81 «سولين/ لم تنتظر انبلاج الصبح/ كادت أن تداهمنا في سيارة الأجرة.. »ص88 «زافين / فعلنا المستحيل كي لا يأتي إلى هذه الشمس/ ولا يبصر الحرائق التي تلفنا.. »ص91
وهنا تتجلى قوة التعبير والسرد الشاعري في أوج انفعاله، لدى الشاعر بإبراز هذه النتفات الوجدانية الصادقة حين يتكلم عنها، أو بالأحرى يستشعر قولها، كأنه يترنم بالحياة، وعليها ينسق مشاعره وأحاسيسه و« يدوزنها» بها لشوط آخر.
تقسيم القصائد يرتكز على محاور ثلاثة: أولها ذكريات عامة ولكن مرتبطة بالأقربين، والثانية متعلقة بحب مراهقي أو مغامرات أيام الجامعة لإحداهن، وتتضمن قصائد رائعة كثيرة، والأخريات كما هي جلية من دفتر العائلة.
وأعتقد أن مجمل القصائد هي من دفتر العائلة، ودفتر العشق، عن تلك التي من أدلب وتلك من السويداء، وتلك لين.. و.. ولا ينسى قامشلو وما حوت دمشق . يلاحظ هنا البساطة في طرح المتناول الشعري، والصدق مع الذات بما يقدم بها نفسه كما هي، لذا تعد هذه تجربة فريدة سابقة للطرح.. ولاحقة للمتناول.
وبكلمة: هذه النصوص تنبئ عن شاعرية حقيقية تستمد قوتها من واقعيتها،وبراءتها، حين يرصد الشاعر تلك الذكريات التي مرت على القلب، ولم تزل تعيش صيرورتها، وذلك الترابط ما بين قوة الذاكرة من توالف الانفعالات الجياشة في آنها إلى صيرورة معالجتها فنياً، مما ينم عن حدس قصصي واكتناز اللحظة المتفجرة ومشاعرها، ثم اختزالها للبوح بها شعراً وجدانياً.« وفي فضاء اللحظة الهاربة أسبح/ لعلني بشغبي وشغفي أمسك بجناح الفراشة/ قبل أن تحوم حول نار أيامي فتحترق» ص72
وهذا الترابط هو أقرب إلى الاعترافات، هذا البوح المستطرد الذي يقول كل شيء دون تأنيب، يغفر له، إن تسلسل العناوين تم وفق نسق تدرج مع الذكريات أولاً بأول ليعطي معنى متكاملاً عن شعرية تلك الأحاسيس، وتناغمت مع بوحها.