المدينة الملوثة عاصمة الثقافة في الشوارع الخلفية
تتحدث المذيعة على لسان بردى فتصف كيف يعبر من مناطق ويتفرع في أخرى، تتحدث بنبرة شاعرية على موجات الأثير عن نهر لا يوجد إلا في الأحلام، وذلك في سياق خطاب العشق الدمشقي المتزامن مع احتفالية عاصمة الثقافة، ويكفي أن تكون من سكان دمشق لتعرف الحالة التي يبدو عليها بردى اليوم، وكيف أوصل نهج التخريب والنمو غير المدروس الرمز المائي للمدينة إلى خط من خطوط الصرف الصحي ومستنقع هزيل للقاذورات.
يكفي أن تهطل الأمطار لترى كيف (تحل) الأرصفة وتتحول إلى سواقٍ من المياه السوداء، وأن تتساقط الثلوج لتصطبغ بلون رمادي هو اللون الحقيقي للمدينة الملوثة. لا أحد يجهل الأرصفة المكسرة إلا من لا يمشون، ومن لا يرى كرنفال البسطات التي يباع فيها كل شيء إلا من يختبئ خلف زجاج سيارته الغامق. من لا يلعن ويشتم آلاف المرات، وهو ينتظر الميكرو الباص أو يحاول إيقاف تاكسي، من لا يصل إلى درجة اليأس وهو عالق في زحمة المرور الخانقة، رغم أن مقعداً في سيارة أجرة صار يساوي مقعداً في الجنة في ساعة الذروة.
إن وصف دمشق بالقذرة قد يثير حفيظة البعض، لكن هل يستطيع أحد أن يدعي أن المدينة نظيفة، الحلول الارتجالية والعلاجات المؤقتة والافتقاد إلى رؤية وتخطيط حوّل التنقل في العاصمة الأقدم إلى تجربة مؤذية، من أكوام الزبالة على مداخل الأبنية، إلى الجزر المنصفة في الشوراع المزروعة بشجر قزمي تدوسه الأقدام، إلى الحفريات والأعمال التي لا تتوقف وكأنها مدينة في طور الإنشاء.
هذا التلوث المترافق مع تلوث بصري فرضته الهيمنة الإعلانية، والعمارة النفعية المتخففة من أية جماليات، وتلوث سمعي صنعته الضجة والأنغام المشروخة الصادرة عن أكشاك السي دي على كل زاوية والأذواق الريفية في سيارات النقل العام. هذا التلوث انعكس على أعصاب المواطن ومنظومته الأخلاقية، فتلاشى التهذيب واحتقنت النفوس وثارت لأتفه الأسباب، كما تحول التعامل مع أي طرف آخر يتضمن كسباً مادياً إلى فرصة للنصب والاحتيال والسرقة في وضح النهار.
أما في دمشق القديمة المخنوقة بالسيارات في شوراعها الضيقة، فقد تحولت نصف البيوت إلى مطاعم وفاحت روائح الطعام والزفر في الحارات المتعرجة المتلاصقة، وتحولت الأزقة إلى أسواق تجارية مزدحمة لم تعد تتيح الهروب من سرعة الإيقاع في المدينة الحديثة، وأصبحت السياحة محكومة بعقلية بازارية فوضوية تفعل ما تشاء مع عدم وجود رؤية شاملة للشكل الذي ينبغي أن يكون عليه هذا الجزء الثمين من العاصمة. وقريباً من سور المدينة القديمة في جزء منه ذي قداسة مضاعفة، تمتد أحياء عشوائية نفضل دائماً أن نخفيها من الصورة.
تبدو الإعلانات الطرقية الأنيقة لعاصمة الثقافة مثل طبقة من الزيت النظيف واللامع على إناء من الماء الآسن، ففي الشوراع الخلفية غير المضاءة تتحرك أشباح بشرية معذبة مهمومة بلقمة العيش ومتلائمة بقسوة مع المشكلات الحياتية الجديدة التي تخلق باستمرار كأزمة الوقود والغاز الأخيرة، بدلاً من حل مشكلات سابقة، وشماعة التدفق الكبير للاجئين العراقيين، صارت من الماضي ولم تعد تقنع أحداً. هذه الكائنات السوداء التي تماهت مع لون الإسفلت، ذات الصمت الغامض والمميت، هي الهدف الذي لن يتحقق من المحاولة الاستعراضية لإشراكها في الترف الثقافي.
أمام قلعة دمشق يقوم تمثال صلاح الدين الأيوبي بما يحمله من رمزية في الذاكرة الجمعية، ومع انطلاق العام الثقافي ارتدى التمثال حلة عسكرية ربما تلائمه، فبدا مثل صهريج في الجيش بلونه الأخضر المتراقص لمعانه كالسحالي، تمثال من مادة بلا نبل كالأسمنت ينسجم مع الألوان الكامدة السائدة، ربما يصلح شعاراً للمدينة.