«فرناندو كورتيس» لسبونتيني: أوبرا بطلب من نابوليون بونابرت
لعل أطرف ما في حكاية هذه الأوبرا يكمن في ان الحكاية تبدأ مع مغنية الأوبرا العالمية الراحلة ماريا كالاس، ذلك أنه لولا أن كالاس، أقدمت عام 1954، على نفض الغبار عن واحدة من أفضل أوبرات الإيطالي غاسباري سبونتيني، وهي «الفستولا»، لتقدمها على خشبة سكالا ميلانو من إخراج المبدع السينمائي والمسرحي لوكينو فسكونتي، لكان سبونتيني بقي شبه منسي.
ذلك أن شيئاً من النسيان، غير المبرر على اية حال، كان قد طوى أعمال هذا الموسيقي طوال ما يقرب من قرن ونصف القرن، على رغم أنه، طوال الربع الأول من القرن التاسع عشر، كان ملء السمع والبصر، لا سيما في باريس. إذ على رغم أن سبونتيني إيطالي الأصل وكان يعتبر أواخر القرن الثامن عشر واحدا من أبرز المجددين في فن الأوبرا الإيطالية، لم تعمّ شهرته تماماً إلا في العقد الأول من القرن التالي، حين كان يعيش في باريس وكلفه نابوليون أن يلحّن أوبراه التي صارت الأشهر بين أعماله لاحقاً: «فرناندو كورتيس». والحقيقة أن كثراً دهشوا يومها، إذ إن نابوليون العائد من حروب «شبه الجزر» (أي حروبه الإيطالية)، حين أراد أن يكلف واحداً من موسيقيي باريس الكبار بتلحين أوبرا كان همّه منها أن تكون أشبه بدعاية سياسية، وقع اختياره على سبونتيني بدلاً من أن يختار فرنسياً. والحال أن ذلك الاختيار عزاه كثر من معارضي نابوليون الى كونه «يحن الى أصوله الكورسيكية الإيطالية»، لكن الواقع كان غير هذا. الواقع أن مستشاري نابوليون الفنيين، كانوا هم الذين نصحوه بسبونتيني، لأن هذا كان في ذلك الحين قد عرف كيف يعيد ابتكار فن الأوبرا التاريخي الاستعراضي الكبير، مطوّراً الحس التراجيدي عند سلفه غلوك، محولاً إياه الى بعد ميلودرامي أتى متواكباً مع الذوق الشعبي. وكان جلّ اهتمام نابوليون في ذلك الحين أن يصل ذلك العمل، المملوء بالأبعاد الدلالية والتلميحات السياسية التي تصب في خانة الحاكم الفرنسي، الى أعرض جمهور ممكن. وهذا يعني - في ما يعنيه - أن نابوليون كان مدركاً منذ ذلك الحين المبكر أهمية الفن في تكوين المواقف والذهنيات.
«فرناندو كورتيس أو غزو المكسيك»، هي وكما يمكن عنوانها أن يدل، أوبرا تتحدث عن الغزو الإسباني للمكسيك أيام حكم الملك شارل الخامس. وكتب نصها الأصلي الشاعر ايزمنارد، فيما وضع نصها الأوبرالي اتيان دي جوي. ولقد قُدّمت هذه الأوبرا للمرة الأولى في باريس خريف عام 1809، لكن سبونتيني، عاد وأحدث فيها تعديلات جوهرية عام 1817، وكانت تلك هي التي حفظها لنا تاريخ الأوبرا، بعدما فقدت الصياغة الأولى.
تبدأ الأوبرا وكورتيس، مع ضباطه ومساعديه، يتقدمون الجنود الإسبان عند أبواب مدينة المكسيك. وكان كاهن المكسيك الأكبر والأمير تلاكسو، قد صبا اللعنة القائمة على رأس أمازيلي، الأميرة المكسيكية وشقيقة تلاسكو، التي كانت تركت قومها لتتبع كورتيس. أما مونتيزوما، ملك المكسيك، فكان في تلك الأثناء يتأرجح بين حالين، فهو من ناحية يشعر أن من واجبه الوطني أن يحارب الغزاة مهما كلف الأمر، ومن ناحية ثانية يشعر بإعجاب شديد إزاء كورتيس الذي يعتبره بطلاً حقيقياً، مع شعوره بأن أمازيلي لم تكن مخطئة حين وجدت أن كورتيس هو المنتقم لها من الإهانة الكبرى التي كان الكاهن الأكبر قد ألحقها بها. في أثناء ذلك كان تلاسكو قد بعث الى الغازي الإسباني رسولاً يحمل اليه الهدايا، طالباً منه أن يعيد أمازيلي الى أهلها وبلدها.
غير أن كورتيس قابل تلك المهمة بتصرف غير سليم، إذ إنه سرعان ما أمر بأسر تلاسكو. ثم عاد وأطلق سراحه، حين أتته أنباء كاذبة، لم يتحقق أول الأمر من كذبها، تفيد بأن أخاه آلفارو، الذي كان قد أسر لدى المكسيكيين قد أطلق سراحه. وهكذا يعود تلاسكو الى المكسيك، محرضاً الجمهور ضد كورتيس، متسبباً في اندلاع أعمال عنف وشغف، وذلك بالاتفاق مع الكاهن الأكبر الذي كان وافقه أيضاً على أن ليس من الضروري الآن أن تعود أمازيلي الى المدينة. بعد ذلك يقوم الكاهن الأكبر وتلاسكو بإعدام آلفارو، فيما كانت آمازيلي تعلن أنها مستعدة لأن تقدم نفسها قرباناً حتى لا تجري إثر ذلك أنهار من الدماء. وهنا إذ تصل الى كورتيس أنباء إعدام أخيه، يستبد به الغضب الشديد ويهاجم المدينة. غير أن مونتزوما، بدلاً من أن يساهم في قرع طبول الحرب، رداً على الهجوم الإسباني الساحق، يبدل رأيه إذ تصله أنباء متتالية عن كرم أخلاق الزعيم الغازي إزاء الشعب وكونه لم يوجه سهام غضبه إلا الى الكاهن الأكبر وتلاسكو وأتباعهما... وهكذا وحتى قبل أن تتضح سيطرة كورتيس التامة على المدينة، يأمر مونتزوما، بأن يقيم المكسيكيون الاحتفالات الصاخبة للترحيب بالغزاة وقد صاروا، في رأيه، ضيوفاً... بل حتى أمر مونتزوما بأن تكون الاحتفالات كلها على شرف الانتصار المزدوج الذي اعتبره انتصار كورتيس وأمازيلي.
في إزاء هذه الحكاية قد يتساءل القارئ: أين هي السياسة النابوليونية من هذا كله؟ ببساطة، كان نابوليون، في عجقة الحروب والغزوات التي كان يقوم بها في ذلك الحين، يستعد لشن غزو كبير على اسبانيا. ومن هنا كان واضحاً أنه يريد من تلك الأوبرا، التي أُعطي إنتاجها موازنة ودعاية كبيرتين، أن يلفت نظر الجمهور الى مشاريعه «الحربجية» تلك، لا سيما بالنسبة الى إسبانيا. وهو، قبل أي شيء آخر، كان يريد أن يعطي مشروع الغزو نفسه، طابعاً مقبولاً، بمعنى أن استقبال ملك المكسيك للغازي الإسباني، يمكن أن يكون - بين التصرفات - تصرفاً يحتذى، لأن الغزو - في مثل هذه الحال - لا يعود اعتداء شعب على شعب آخر، بل تمازجاً بين الشعبين (ترمز إليه ازدواجية كورتيس/ آمازيلي)، ثم ان مثل هذا «الغزو» يصبح بالأحرى «تخليصاً للشعب الذي غزيت أرضه من حكام ظالمين ومن فتنة داخلية»، وهذا، بالتحديد، ما ينمّ عنه موقف مونتزوما، الذي يعتبر وصول كورتيس، متناغماً مع ابنة بلده أمازيلي، الى المكسيك، نصرة لشعب المكسيك كما نصرة له هو نفسه، على التحالف الشرير الشيطاني الذي قام بين الكاهن الأكبر وتلاسكو. كانت هذه هي المعاني التي توخى نابوليون من هذه الأوبرا، التي راهن عليها كثيراً، أن توصلها الى الجمهور. لكن هذه الرسالة لم تصل، بل إن ما وصل الى الجمهور كان رسالة معاكسة تماماً: فالمتفرجون الذين، بانبهارهم بالموسيقى الرائعة التي وضعها سبونتيني، أحسوا أنهم مأخوذون بمعان تتجاوز المعنى المباشر، وقفوا يصفقون خصوصاً للبطولات الخارقة التي أبداها المكسيكيون في وجه الغزاة الإسبان أول الأمر. ولقد انعكس هذا لاحقاً، حين راح الإسبان يقاومون الغزو النابوليوني ما بهر المتفرجين أكثر وأكثر، معتبرين فن سبونتيني «فناً يناضل ضد كل غزو وكل احتلال». وإذ شعر نابوليون بهذا كله وأدرك كم أن حساباته كانت خاطئة، أمر على الفور بوقف عرض الأوبرا في وقت كانت قد وصلت الى ذروة نجاحها. ولئن توقف عرض «فرناندو كورتيس» في ذلك الحين، فإن موسيقاها ظلت تلهم وتثير إعجاب الموسيقيين الفرنسيين والإيطاليين خلال الفترة اللاحقة، ومن بينهم هكتور برليوز الذي اعتبرها أحد أهم الأعمال الأوبرالية التي حققت خلال ذلك الزمن.
عاش غاســـباري سبونتيني بين 1774 و1851، وعاش سنواته الأولى والأخيرة في إيطاليا، لكنه بين هذه وتلك عاش فترات طويلة متنقلا بين برلين (التي سيقول إنها علمــته كثيراً) وباريـــس (التي سيقال إنه علمها كثيراً). وهو كان قائد أوركسترا ومؤلفاً موسيقياً في الوقت نفسه. ومن بين أشهر أعماله الى جانب «فرناندو كورتيس»، «الحب السري» (1797) و «البطولة السخيفة» (1798) و «الإطارات المتكلمة» (1800) و «البيت الصغير» (1804) و «جولي أو آنية الزهر» (1805) و «أوليمبيا» (1819)... وهاتان الأخيرتان كانتا من بين الأعمال التي وضعها في باريس.
المصدر: الحياة