سرديات لتزجية الوقت«5» تلفزيونات النقل الداخلي
ومرت سنوات قليلة، فصار تلفزيوننا هو الأقدم. حتى جدي نفسه.. اشترى تلفزيوناً بعدما أُصيب بنزلة برد شديدة في أحد الأيام، وكان هذا التصرف هو الأنسب كي يلزم جدي البيت، وأما أنا فقد فرحت كثيراً لأنه صار بإمكاني أن أقضي معظم وقتي في بيت جدي، كما كنت أفعل قبل أن نشتري تلفزيون. أَحب جدي التلفزيون كثيراً، وصار يستخدم مفردة التلفزيون نفسها للتعبير عن الأشياء المدهشة والغريبة، بالرغم من أن الحارة كلها تستخدمها (التلفزيون) للتدليل عن الكذب، وهكذا صار حسني الكذاب يلقب بالتلفزيون!..
وأيضاً، خلافاً للآخرين أحب جدي البرامج والمسلسلات الأجنبية، واستطاع بحس نادر أن يلتقط فكاهات الأجانب، وأن يتذوقها، وينفعل معها، فيضحك وسط استغراب الآخرين. وهكذا ترسخت عاداته التلفزيونية، فصار يضع التلفزيون على بعد متر واحد فقط كي يتمكن من القراءة، وصار يطلق أسماء على الشخصيات، فكانت الطويلة، والغزالة، والشقراء،.. والكرنيبة (يقصد العجوز المتصابية)، كما اعتاد أيضاً أن يرفع صوت التلفزيون أكثر من اللازم أثناء المسلسلات الأجنبية، رغم استياء وتبرم البعض..
وكلما تذكرت هذا الأمر لا أستطيع منع نفسي من رواية تلك الحادثة التي جرت معي عندما كنت طالباً في كلية الهندسة الميكانيكة بدمشق.
في بداية الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته البلد، تعرف السوريون على ما يسمى باصات الشبه بولمان، وصرنا ننعم (نحن أبناء المحافظات على حد تعبير فايز حمدان) بجنة المكيف والشوفاج والفيديو خلال السفر. وبعد فترة قصيرة، بدأت الأحوال تتغير، فصار السائقون يطفئون المكيف (أو الشوفاج) في اللحظة التي ينطلق فيها الباص، غير آبهين باحتجاج الركاب، لأنو اللي ما عجبو ينزل!
أما المشكلة الثانية، فقد كانت مشكلة شخصية. كنت أشعر بالامتعاض عندما يكتم السائق صوت الفيلم الأجنبي، لأنو نحنا عربي ما عم نفهم، ويرفع صوت المسجلة على الآخر: يا لذلك التلاقح الأخاذ بين الحضارات والحوار النبيل بين الثقافات، ففي الباصات كنا نشاهد أفلام غزو الفضاء على خلفية غناء حجيات في الرستن!.. وبسبب سفراتي المتكررة، وعادات السائقين نفسها، صرت بعد ثلاثة شهور فقط أعرف جميع سكان الرستن، وصرت أعرف من تزوج فيها، ومن طهر ابنه، ومن نجح في البكالوريا، وحصل كل ذلك بسبب تبادل (التحيات) التي تبثها أشرطة الكاسيت..
وفي إحدى المرات، وهي مرة نادرة، كان الفيلم جديراً بالمشاهدة، فطلبت من السائق أن يرفع الصوت قليلاً لوسمحت، فطنش، فأعدت الطلب ثانية، فانفجر المعاون لأنو نحنا عربي ما عم نفهم. لم يقل السائق شيئاً في الحقيقة، غير أنه أخذ اليمين وتوقف وأعلن أنه لن يمشي متراً واحداً إذا لم أنزل من السيارة. ولم أنزل من السيارة لأنو الدنيا مو فلتانة، وقررت أن ألقن السائق درساً، بأن نذهب إلى مخفر الشرطة، فقال لي: طز!
ومشى السائق بعد أن تدخل أولاد الحلال. وندمت، ولعنت الشيطان الرجيم وأبو الأفلام. وبدا كل شيء على ما يرام.. إلا أن الميكرو خرج عن الأوستراد وتوقف أمام مخفر الشرطة، فحوقلت، وتدخل أولاد الحلال، بلا فائدة، فقد أصر الشوفير أن أشتكي للشرطة لنشوف شو بدو يطلع منك؟!
ولم أبرح مكاني، إذ لا جدوى من ذلك. وهذه اللاجدوى ليست نابعة من معرفتي بذلك الحلف التاريخي بين السائقين والشرطة كما يظن العملاء وضعاف النفوس، بل بسبب إدراكي وإيماني العميق بأن الشرطة لن تفهم موقفي لأنو لشو العلاك وأكل الهوا (الهوا هي الكلمة العربية الفصحى لكلمة أخرى شائعة جداً، وذلك بمناسبة الاحتفال بدمشق عاصمة للثقافة العربية)، ما دام الفيلم أجنبياً، ونحنا عربي ما عم نفهم..
قال الشوفير للشرطي الذي جاء في التو: شوف لي هالأخ، مفكر حالو بالسينما. وأنزلني الشرطي، ونزل الشوفير. سلّم جميع أفراد الشرطة المتواجدين هناك على أبو عرب (الشوفير) وصبوا له كأس شاي. وأدخلني واحد منهم إلى مكتب المعلم، ومنذ الوهلة الأولى شعرت بالطمأنينة، وأدركت بحاسة سابعة أن المعلم يكتب الشعر، وبحاسة ثامنة عرفت أنه يكتب الشعر العمودي، وبحاسة تاسعة عرفت أنه يكتب الشعر في المناسبات الوطنية والقومية، ولم يتركني المعلم أكمل اختبار حواسي المتبقية، وحسناً فعل.. فالحقيقة أنني كنت مرتبكاً إلى أقصى درجة، لأنني كنت مقتنعاً بأن المعلم الشاعر لا يختلف عن الآخرين: لأنو نحنا عربي ما عم نفهم. وضع سماعة التلفون وسألني بأدب جم: شو مشكلتك يا ابني؟ وشعرت بالخزي لأنني أسأت النية حول المعلم الشاعر، فقلت بجرأة: السائق مخالف وتوجد سبعة مقاعد إضافية وأربعة ركاب على المحرك. فأجابني المعلم بأدب وطني: هل غادر أحدهم كرسيه وجلس فوقك؟ قلت له: السائق لا يشغل الكوندشن. فقال لي بأدب نصف جم: هل يوجد كوندشن في بيتكم؟ قلت له: صوت المسجلة على الآخر! فرد بأدب ربع جم: إذا خايف على حالك من البهدلة.. خذ تاكسي. وأُسقط في يدي فقررت أن أقول الصدق لأنه أنجى وأنجى، كما تعلمت في المدرسة، فقلت الحقيقة. فرد بجم فقط، ومن غير أدب: حضرتك سائح، وإلا جاي من أكسفورد. فسكتُّ، ولم أجرؤ أن أخبره أن اكسفورد فرنسية، واللغة فيها ليست انكليزية كما يتوقع!..
دخل أبو عرب وجلس على الكرسي دون استئذان، وكنت أنا واقفاً طوال الوقت باستعداد، ثم أخذ الشوفير دور المعلم الذي يكتب الشعر في المناسبات الوطنية، وسألني: ماذا تشتغل؟ فقلت له: أنا طالب جامعة، وسألني مرة أخرى، وماذا تقرأ في الجامعة: فقلت له: فلسفة. فتطلع بي ملياً، وقال: يلعن أبو اللي عطاك الشهادة، ثم تدخل المعلم لإكمال القصيدة الوطنية، فقال لأبو عرب: خلص روح!.. وحصل كل ذلك وسط تصفيق حار من جميع الحاضرين، ومحبي الشعر خاصة في المناسبات الوطنية..
وعدنا إلى الباص، وكنت متأثراً بالقصيدة إلى أبعد مدى، فأنا أحب الشعر العربي الأصيل وأتذوقه منذ نعومة أظفاري، وقد تتلمذت على يدي جدي الذي يعشق الشعر العربي، ولا يطيق التلفزيون والمسلسلات الأجنبية، والذي ظل حتى مماته يحرم مشاهدة كل ما هو أجنبي لأنه يفسد الذوق والأخلاق. وأما أبو عرب، ففي اللحظة التي صعد فيها إلى الباص، فقد أطفأ الفيديو والمسجلة في شبه عقوبة جماعية عسكرية، لأننا شعب بجم، وبالكتير علينا باصات الهوب هوب..
وبعد سنة كاملة وصل الباص إلى دمشق، وكانت مدينة كالحة وحزينة وأرملة، ثم أحسست بها تتجمع هناك في زاوية العين، حارة، وثقيلة، مثل قطرة الزئبق، ولكنني لم أدعها تنهمر.. تلك الدمعة!..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. ■