تراث محاكمة الحلاج
في عام 309هـ أعلنت المحكمة الشرعية التي شكلها الوزير العباسي حامد بن العباس حكمها بالموت على المتصوف الشهير أبي المغيث الحلاج، وكان الحكم صدمة للكثير من الأشخاص في مختلف المواقع بدءاً ببعض رجالات الدولة والحكم، مرورا بعدد كبير من رجال الدين والفقهاء، وصولا لأتباع الحلاج كثيري العدد، وعوام بغداد الذين كان يتمتع في أوساطهم بنفوذ معنوي كبير.
لم يكن لمحاكمة أو إعدام شخصية بحجم الحلاج أن يمر بسهولة في تلك الفترة الحية من التاريخ الإسلامي حيث كان المجتمع يضج بالحركة والنشاط، ويتأثر بعشرات التيارات الفكرية والسياسية والدينية، وبيئة كهذه لم تكن ستتقبل بالتأكيد محاكمة شبيهة بدعاوى الحسبة والتكفير التي تشيع في أيامنا، فعلى الرغم من أن المتصوفين عامةً وفي مقدمتهم الحلاج جاؤوا بأفكار بدت غريبة عن مألوف العقيدة الإسلامية، كالحب الإلهي والفناء في الذات الإلهية، ووحدة الوجود، وإسقاط الوسائط والفروض الدينية بين الإنسان والله، ورغم كل الشطحات الصوفية التي اشتهر بها الحلاج والتي وصلت إلى حد الدفاع عن إبليس وفرعون، فإن محاكمته وقتله تطلبا من الوزير المستبد حامد بن العباس الكثير من الجهود والمناورات والحيل الملتوية.
قبل سنوات طويلة من صدور هذا الحكم حاول بعض رجال الدين المتشددين وعلى رأسهم الفقيه الظاهري محمد بن داوود محاكمة الحلاج بتهمة الكفر، بعد أن أثارت أقواله في العشق الإلهي غضبهم، إلا أن الفقيه الشافعي المتنور أبا العباس بن سريج الذي كان متفهما للتصوف رفض محاكمة الحلاج وإدانته، وكان يقول لمن يسأله عنه: «هذا رجل خفي عني حاله وما أقول فيه شيئا»، وقد عبر ابن سريج بهذا عن وعي متقدم بأن القضايا الفكرية ليست من اختصاص المحاكم، وبفتواه هذه حمى الحلاج من المحاكمة بتهمة الكفر لمدة عشرين عاما.
لم يكن الحلاج متصوفاً منعزلاً عن العالم وهمومه، بل كان منخرطاً في الحركات الثورية الموجودة في زمنه، وفي تلك الأيام التي عرفت حركتي الزنج والقرامطة وإعلان الخلافة الفاطمية في المغرب شكل وجوده خطرا داهما على الدولة العباسية، ولما كان من المتعذر محاكمته بسبب فتوى ابن سريج فقد تم القبض عليه والتشهير به في شوارع بغداد على أنه أحد دعاة القرامطة، ثم أودع السجن بدون محاكمة، وهكذا لم يكن الحلاج إلا سجينا سياسيا ولم يستطع أعداؤه أن يجدوا مبررا لتكفيره.
واصل الحلاج نضاله من داخل السجن، وكان تحريضه ضد سياسة الوزير حامد بن العباس «الذي نهب أموال الناس وأرهقهم بالضرائب» عاملاً هاماً في اندلاع انتفاضة فقراء بغداد ضده، وبعد قمع هذه الانتفاضة، قرر الوزير حامد أن يتخلص نهائيا من الحلاج، فاستدعى الفقيه الحنبلي أحمد بن سهل بن عطاء «وهو أحد قادة ثورة الفقراء» وطلب منه أن يشهد بكفر الحلاج، محاولاً أن يستثير تعصب هذا الفقيه المنتمي إلى احد أكثر المذاهب الإسلامية تشدداً، ولكن ابن عطاء خيب أمله ورد عليه ردا صاعقا: «مالك ولهذا؟ ـ يقصد تكفير الحلاج ـ عليك بما نُصبتَ له من أخذ أموال الناس وظلمهم وقتلهم، مالك ولكلام هؤلاء السادة»، ودفع ابن عطاء ثمن شجاعته غاليا حيث تلقى ضربا مبرحا من جلادي الوزير توفي بسببه بعد سبعة أيام.
في النهاية قرر ابن العباس أن يعقد للحلاج محاكمة هزلية تشبه إلى حد ما محاكمة المفكرين في زماننا، وقد استبعد منها قضاة المذهبين الشافعي والحنبلي وأقصى منها أيضا قاضي االمذهب الحنفي أبا جعفر البهلول الذي رفض بدوره أن يحكم بزندقة الحلاج، واستطاع الوزير بأساليب ملتوية تذكرها كتب التاريخ بالتفصيل أن يستصدر حكما بأعدام الحلاج.
تم تنفيذ الحكم وصلب الحلاج بعد أن بترت أطرافه الأربعة، كما ان كتبه اتلفت ومنع الناس من تداولها. وانتهى ذلك المتصوف العظيم غير عالم بأن قصته ستتكرر كثيرا وبأشكال مختلفة فيما سيلي من عصور.
■ محمد سامي الكيال