أوس أحمد أسعد في: «غابة المفردة، نشيد الغبار الطلق» عتبات الدهشة المتصدّعة
منذ البداية، وبعيداً عن العنوان الذي لا بدّ أن يستدعي عنواناً أدونيسياً شهيراً: «مفرد بصيغة الجمع»، وضعتني «الارتجالات!» المدروسة جداً، والمنحوتة بحرفنة بعيدة كلّ البعد عن أيّة روح تلقائية، أمام توجّس يخصّ مقدرة النصوص على الوفاء بالوعود التي أطلقها الشاعرُ والوفاء لها. وأقصد بـ «الارتجالات» تلك المداخل التي تصدّرت الكتاب: امتنان - كلّ مكان لا يؤنث لا يعوّل عليه - أشدّ من حفاوة ٍ أبيض من تقديم .
لقد وعد َ الشاعرُ بأنه سيقدّم لسيّده الشعر «ذكورة تليق بأنوثة هذا العالم » ص (5) وأرى بأنه حنث بوعده منذ الصفحة الأولى إذ استخدم مفردة «ديوان» كوصف، أو تعريف، لكتابه. فالذكورة التي تليق بأنوثة هذا العالم هي ذكورة لا مرجعية أبداً، ذكورة فردية، غريزية، ارتجالية، بعيدة كلّ البعد عن المكرّس والممارس من معاني الذكورة. في الوقت الذي تفيد فيه، أو تنطوي عليه مفردة «ديوان» أنها الاجتماع، والاكتمال، والتبويب، والترتيب، والتحكم، والسيطرة، وتأكيد كلّ ما هو ذكوري بالمعنى الذي لا يليق بأية أنوثة، إذا أجمعنا على أن الكثير من الأنوثة شفافية، وتلقائية، وجمال، وسلام.
ومن خصائص الانتصار للأنوثة، بعيدا ً عن الاستخدام الملغّز والمبتذل للغة، التأكيد على أن المحسوس والملموس والمعاش من خصائص الأنوثة هو مصدر اللغة التي تقدّم النصّ وليس العكس. الأمر الذي يساهم في تعزيز قيم ذكورية ترى في الانفصال الجنسي ضرورة طبيعية. وليس اصطفاء معيارياً وتكريساً لشرعيّة غير مكتسبة بالجدارة .
«الضوءُ والحبقُ/ سليلا خصركِ/ الأهيفان/ يضرمان الفداحة/ أقصى الفداحة/ وإذ يغيران/ تغير النفحة/ على إرثها الطيب/ ينداح خفر إلى احتماله/ وتشرق أنثى».
الأنثى تشرق من متوالية أفعال يبدؤها الضوء والحبق. ولولا اندياح «الخفر» إلى احتماله لما حصل الإشراق، فالسببية في الأفعال السابقة واضحة تماما. إن إشراق الأنثى مرتبط بالتتالي السببي للأفعال الواردة في المقطع السابق، وكأنما الأنوثة مرتهنة في وجودها لسابقة ٍ لها، سابقة هي صفة، أو صفات تحدّدها وتجوهرها، صفات افترضها وصاغها الذكر المشتهي، الذكر ذاته الذي وضع المقاييس التي تُختار على هديها ملكات الجمال، تلك المقاييس التي أضافت، إلى ما يقدّمه المقطع السابق، الذكاء والتلقائية وغيرها!
والجميل، مهما راوغت اللغة الذكورية وجرّبت حيلها، يبقى أدنى سوية بكثير من قدرته على خلق أنثى، في الوقت الذي يمكن فيه لأية أنثى أن تكون منبع الجميل ومصدره. قد يقال هي امرأة بعينها. وهذه تجربة الاحتكاك مع هذا التعيّن!
وفي العودة إلى النصوص التي نقصد الاقتراب من كونها، عبر الحوار مع منطقها وآليات بنائها، وفي المحصّلة مع سوية الجدّة في مُقترحِها. نجد أنفسنا إزاء نصوص تتخذ فيها اللغة المصدر الشعري الأول. ذلك أن هذه النصوص لا تفصح عن تجربة حسيّة إنسانية تحيل إلى الحياة ، كحيّز لاختباراتنا، وتنسجم مع ما يقترب من أنوثة هذا العالم، بل التجربة في اللغة وفي التصوّر كحدين نهائيين. ولا يفيد في إعادة الحياة إلى تلك النصوص «نهدان بطران يطعنان القميص ويجرحان عزلته، أو نهدان يعظّمان الصباح، أو حتى النهدان اللذان يقصد بهما الشاعر حديقة» ذلك أن الأنوثة ليست تشريحاً أو«مورفولوجيا» بقدر ما هي احتفاء خفيض النبرة بالعابر خلسة من جمال لم تنطبع على عنقه خشونة الأصابع التي رسمت بصماتها قسوة هذا العالم.
«كي أفسرك ابتكرت الغموض» يكتب الشاعر. وإذ نقرأ يتأكد ما أحسسناه من وقوع الشاعر في شرك المتاهة اللغوية، بعيداً عن النبض الشعري المتوفر في جزئيات الحياة، وحراك تجربته في المستوى الميتافيزيقي الافتراضي بعيداً عن العياني الشخصاني. والمتمعن في الجملة السابقة لن يجد ما يتعدى السذاجة شعرياً ومنطقياً. بل وعن غير قصد إساءة بليغة للمرأة، أو أي مخاطب آخر. فالذي يبتكر الغموض كي نفسّره هو من الوضوح لدرجة يمكننا معها أن نعتبره لا شيء. وتفسيرنا له، مستندين إلى الغموض الذي ابتكرناه، يأتي كشكل لإدعاء الخلق والإيجاد.
وفي مقاطع، أو جمل كثيرة، من النصوص التي احتوتها المجموعة يتعزّز لدينا الإحساس بأن اللغة، اللغة ولا شيء آخر، هو من يتحرك فارضاً سيطرته «محض رقّة / وينثال البياض / آن للسهو / أن / يسرد الغابة / من وعلها».
شيء واحد يمكنني قوله. آن للشعر أن يتقاعد من اللغة. وآن للقارئ أن يخلص من تورطه في لعبة «التأويل والتأويل المضاعف» الذي تقوم به الكلمة «الشعرية» والذي يحتفي به د. خالد حسين على الغلاف الأخير للمجموعة.