ملائكة بورخيس وبارثيلم (1 من 2) تاريخ للملائكة
تكبرنا الملائكة بيومين وليلتين: خلقهم الربُّ في اليوم الرابع، ومن علياء شرفتهم بين القمر الأول والشمس المنحوتة للتو رمقوا الأرضَ الوليدة، ولم تكُنْ آنئذٍ سوى بضعة حقول من القمح وبعض البساتين إلى جوار المياه. هؤلاء الملائكة الأوّلون هم النجوم. أما بالنسبة للعبرانيّين، فقد كان مفهوم الملاك ومفهوم النجوم متداخلين تلقائياً، وسأنتقي، من ضمن نصوص كثيرة، مقطعاً من سفر أيوب (38: 7) يتحدَّث فيه الربُّ من قلب الزوبعة، مسترجعاً بدايةَ العالم. "حين غنَّتْ نجومُ الصباح سوياً، وصاح أبناء الله كلُّهم فرَحاً". ولا يخفى بالطبع إن أبناء الله هؤلاء والنجوم التي تغنّي هم صُورٌ نستجلي الملائكة فيها. وكذلك إشعيا (14: 12) يدعو الملاكَ الساقط "نجمَ الصُّبح"، في عبارةٍ لم ينسَها كيبيدو حين سمَّاهُ (النجمَ العاصي، الملاكَ المتمرّد). إنّ هذه المطابقة بين الملائكة والنجوم (الماكثين في عزلات الليل) لتذهلني بجمالها؛ وهي واحدةٌ من مزايا اتّسم بها العبرانيون الذين أحيوا الأجرام الفلكية بالأرواح، وارتقوا بألق كواكبها إلى مصافّ المخلوقات الحيّة.
من مستهلّه إلى ختامه يحفَلُ العهد القديم بالملائكة. ثمة ملائكة مُبْهَمون، إذا لاحوا عبر استقامة الدروب في السهول، لا يتوصَّلُ أحدٌ، من فوره، إلى التكهُّن بطبيعتهم فوق الإنسانية؛ وثمة ملائكة أشدَّاء كالأيدي العاملة في المزارع، كمثل ذاك الملاك الذي تعارك يعقوب وإياه ليلةً بأكملها حتى انبلجَ الصبح؛ وثمة ملائكة ذوو سلطان، كمثل قبطان مركب الربّ الذي تجلّى ليوشع؛ ثمة ملائكة يتوعّدون المدن وآخرون يشبهون، في سيمائهم، أدِلاَّء يُعوَّلُ على درايتهم بالقِفار والبراري؛ كما يربو تعدادُ الملائكة المحاربين في كتائب الله على ألفي ألف ملاك. نصادفُ أوفرَهم عِتاداً في رؤيا يوحنا، أو فوجِ المحاربين السماويين: ثمة الملائكةُ الجبابرة الذين يُقارعون التنين؛ وأولئك الذين ينتصبون بركائزهم عند زوايا الأرض الأربع لئلاّ تندثر فتذرّيها الرياح؛ وأولئك الذين يُحيلون ثلُثَ البحر دَماً؛ والذين يقتطفون عناقيد كروم الأرض ويقذفونها في معصرة غضب الله العظيمة؛ والذين هم محضُ أدوات في يد البطش الربّاني؛ والذين يغوصون في نهر الفرات العظيم وينبجسون منه كالعواصف؛ والذين يتمازجُ فيهم النسرُ والإنسان.
إنَّ الإسلام بدوره يعرف الملائكة جيداً. فالمسلمون في القاهرة يعيشون أيامهم محفوفين بالملائكة الذين يعجُّ بهم العالم الواقعيّ ويفيضُ. من الناحية النظرية، بناءً على قول إدوارد وليم لين إنَّ كُلّ تابع من أتباع الرسول يُصاحبه ملاكان حارسان، أو خمسة، أو ستّون، أو مائة وواحد وستون ملاكاً حارساً.
إن رسالة الملائكة في مراتبهم السماويّة، المنسوبة عن طريق الخطأ إلى المتنصّر الإغريقي ديونيسيوس والمكتوبة حوالي القرن الخامس من عصرنا الراهن، هي تصنيفٌ لطبقات الملائكة يزخر بالوثائق التي تبين الفروق، على سبيل المثال، بين الكاروبيم والساروفيم؛ حين تخصّص للأول كمالَ الرؤية التامّة لله، وتخصّص للثاني صعوداً أبدياً صوب اللّّه تتملَّكه في الأثناء ارتعاشاتُ النشوة، كمثل لَهبٍ انبثق صّاعداً نحو الأعالي. وانصرمَ، على ما استعرضناه آنفاً، ألفٌ ومئتا عام حتى جاء ألكسندر بوب، وهو النموذج البدئي للشاعر المثقَّف، واستحضر هذا الفَرْق وهو يخطُّ بيتَه الشهير: "... والساروفيم المستغرِقُ، جذلانَ في لهيبهِ يتزيّا....".
علماءُ اللاهوت الذين تستحقُّ عقلانيّتهم عميقَ الإعجاب، لم ينكفئوا قطّ عن الملائكة، بل سَعوا إلى إماطة الحجب عن هذا العالم المكوَّن من السرابات والأجنحة، مستعينين بمنطقهم التحليليّ، وما كانت هذه المهمّة باليسيرة قَطْعاً، لأن تعريفَهم المتعارف عليه للملائكة يقضي باعتبارها مخلوقاتٍ تتسامى فوق الإنسان، غير أنّها بالضرورة دون مقام الألوهية. عالم اللاهوت الألمانيُّ رُوْثِه يتطرَّقُ في تأملاته إلى أمثلة عديدة تتناول حركية هذا الديالكتيك، في مدِّه وجَزْره، وقائمتُه بخِصال الملاك بَهْجةٌ للمتمعّنين في هذا الشأن: تشتمل تلك الخصال على توقّد الذهن؛ الإرادة الحرّة؛ اللاماديّة (وإن كان بمقدوره، على أية حال، ومن حينٍ لحين، أن يشفع نفسه بالمادَّة)؛ اللامكانية (فهو لا يشغلُ أي حيّز من المكان، وما من مكان يحتويه على حدٍّ سواء)؛ الديمومة التي ابتدأت ولا مُنتهى لها؛ التخفّي بل حتى السكونيَّة فيتسنّى لهم إلقاءُ مراسيهم عند سواحل الأبديّ. أما الصلاحيّات التي قُيّضت لهم فتُنعِم عليهم من الرِقّة بصفوة طراوتها - المقدرةُ على التحاور والتخاطب فيما بينهم أنّى شاؤوا، دونما إشاراتٍ أو كلمات، إلى جانب المقدرة على اجتراح الأعاجيب، وليس المعجزات. إذْ ليس في مستطاعها الخلقُ من عدم أو بعثُ الموتى. هكذا تتبدّى أقاليم الملائكة التي تتوسّط الطريق بين الله والإنسان على درجة فائقة من التنظيم.
لقد عرَّج القبلانيون بدورهم على الملائكة. ففي كتابه الألماني المطبوع ببرلين سنة 1920، وعنوانهُ عناصر القابالا، يعكف الدكتور إيريك بيشوف على تعداد الـ Sefiroth العشر، أو فيوض الربوبية الخالدة. كُلُّ فيضٍ، على حِدة، يتناسب مع: إقليم من أقاليم السماء، واسمٍ من أسماء الله، ووصية من الوصايا العشر، وعضو من أعضاء الجسد الآدمي، وطبقة من طبقات الملائكة. وفي كتابه أدب الأحبار، يقيم ستيهيلين الأواصرَ بين الحروف العشرة الأولى من الألف باء - أي الأبجدية العبرية - وبين هذه العوالم العشرة الرفيعة المقام. وجرياً على هذا المنوال، سوف نجدُ حرفَ الألف، مثلاً، على صلة بالدماغ، الوصية الأولى، سماء النيران، الاسم الرباني "أنا أنا"، والساروفيم الذين يُلقَّبون بالوحوش المقدسة. تبدو جليَّةً مغالطاتُ الذين يتّهمون القبلانيين بانعدام الدقّة، لأنهم كانوا، خلافاً لهذه المزاعم، متزمّتين مهووسين بالمنطق، فقد ابتدعوا، في خطواتٍ متسلسلة، عالماً للألوهية لا يختلفُ كثيراً في سببيّاته وصرامة دقّته عن العالم الذي نتلقَّنُه الآن.
ولم تعثُرْ أسرابُ الملائكة هذه على أي سبيل تتفادى به خوْضَ الأدب. والأمثلة لا تُحصى. ففي السوناتا التي كتبها خوان دي خاوريغوي للقديس أغناطيوس لويولا، يستعيدُ الملاك جبروتَه التوراتي وجهامَةَ شكيمته القتالية:
انظُرِ البحرَ، فخليجُه ألهبه بالنيران
الملاكُ الجبَّارُ، المدجَّجُ بالطُّهْر.
أما لويس دي غونغورا فرأى في الملاك جوهرة ثمينة بُغيةَ تزيين القصيدة، لا ضيرَ لو اغتبطت بها النسوةُ والأطفال:
متى يحينُ أوانُ الخُطاةِ
آهٍ، كي تفكَّ أيها الملاكُ، الكريمُ النسب،
نيرَ الحديد بيديكَ البللوريّتين؟
وفي إحدى سوناتات لوبي دي فيغا، عثرتُ بمحض المصادفة على هذه الاستعارة المُستساغة والشبيهة باستعارات القرن العشرين شبهاً شديداً:
تتدلّى عناقيدُ حبَّاتُها الملائكةُ.
وهؤلاء الملائكة الذين يتضوَّعون بعبق الريف في قصائد خوان رامون خيمينيث:
ملائكة غامضون، بنفسجيُّون كالخُبَّازِ الزاهي
كانوا يطفئون النجومَ الخُضْر.
وهنا يصل بنا التطوافُ إلى المعجزة الحميمة التي هي الباعثُ الحقيقي على كتابة هذا المقال: أي ما يمكننا تسميتُه ببقاء الملاك. لقد تصوَّرت المخيلة البشرية حَشْداً من الوحوش (التريتونات، الهيبوغريفات، الكيميرات، ثعابين البحار، أحاديات القرن، الشياطين، التنانين، البشرَ المستذئبين، السيكلوبات، الجنيّات، البازيليسكات، أنصاف الآلهة، اللوياثانات، وفيلقاً من الوحوش الأخرى)، واختفَتْ جميعُها باستثناء الملائكة. واليوم، مَنْ يجرؤ على التلميح إلى الفينيقِ في بيتٍ شعري، مَنْ سيُفسح للسنطور نُزْهةً في رحاب قصيدته؟ لا أحد؛ ولكن - بغضّ الطرف عن حداثيّته، ما من شِعْرٍ لا يُسِرُّهُ أن تتّخذ الملائكة أعشاشها في كنفه فتبثَّهُ ألقها السخيّ. أتخيّل الملائكة على الدوام، عند حلول الليل، وفي غسق الضواحي أو المباني المهجورة، وفي تلك الهُنيهة المديدة الهادئة التي تتداعى فيها الأشياءُ رُويداً إلى وحدتها، مُوليةً ظهورَها لغروب الشمس، وحين تشبهُ الألوانُ ذكرياتٍ أو هواجسَ عن ألوانٍ أخرى. لنتلطَّفْ بملائكتنا ولا نفرِّطَنَّ بهم، فهم آخرُ الآلهة الذين آويناهم، ولرُبّما حلّقوا، بعيداً عنا، واختفوا.
■ خورخي لويس بورخيس
• ترجمة: جولان حاجي