جغرافيا برسم الغناء
ليس جديداً أن تكون مصر بتاريخها الفني العريق قبلة الغناء العربي وأن يكون مطربو لبنان سفراء فوق العادة أينما حلوا وارتحلوا طالما أن فن الرحابنة وصل الدنيا ببستان هشام، ومن الطبيعي جداً ما نراه ونسمعه من زخم الأغنية الخليجية على شاشاتنا العربية فهذه سمة عصرنا.
ولم تكن مشكلة في يوم من الأيام إذا غنت ميادة الحناوي أو أصالة أو جورج وسوف وغيرهم من المطربين السوريين بلهجات أخرى، فالأغنية كائن لا منتمي بطبيعته العابرة للهويات، ولذلك لم تكن حدود الجغرافيا عائقاً أمام انتشار الأغنية في أي وقت بل على العكس حملت بعض الأغاني أماكنها وسافرت بها في كل مكان فكم شغفنا بفيروز وهي تغني للشام ولبغداد ولمدن عربية أخرى ومن لم يحاول منا أن يلتقط قمر مشغرة وإن بخياله أو يتعلم أبجدية المشي على أدراج بعلبك وإن أعيته الوسيلة ركب البوسطة مع فيروز باتجاه تنورين.
من هذه الأغنيات وأخرى لصباح ووديع الصافي تعلمنا كيف يتحول المكان من إحداثيات جغرافية إلى علامات موسيقية وكيف تكون القرية الصغيرة مطلعاً والزقاق الضيق مذهباً والحارات قفلة.
في العراق لحزن المكان طعم آخر... وكأنه لا يكفي حزن البشر لصنع بكائية، فلابد من أنّة جسر في المسيب، أو زفرة من نخلة في السماوة، أو آه حارقة على شط البصرة حتى تكتمل صورة هذا الحزن الوجودي المزمن، ورغم ذلك توارى الحزن وبقي المكان ذكراً في مسامعنا.
على أرض مصر تكفيك أغنية لتكون دليلك السياحي الذي ينقلك من مدينة لأخرى أو جملة في أغنية شعبية تدخلك حياً من أحياء القاهرة أو الإسكندرية.
الأماكن عندنا، وهي غيرها أماكن محمد عبدو، هجرتها الأغاني منذ زمن، ربما منذ شبابيك الحلوة بطرطوس، كيف ولماذا ليست مشكلتي، لكنني أؤمن أن دمشق وحلب وساحل اللاذقية وفرات دير الزور قابلة للغناء. وأنه خلف ازدحام الحميدية وباب توما غنائية تكفي عصراً بحاله. وأن أبعد قرية عندنا بإمكانها الاسترخاء بوداعة ضمن أغنية أو أهزوجة ولا يهم إن كانت هذه الأغاني تحفاً فنية أم لا طالما أنها تلامس الوجدان وتتلاعب بذكرياتنا وذكرانا.
أريد مكاني بأغنية أغنيها وتغنيني. وإذا كان من القسوة العيش في مكان لا يعرف الغناء فإنه من المحزن الحياة في مكان لا تعرفه الأغاني.