رائد وحش رائد وحش

إعادة الاعتبار لعمل الممثل.. «ضيعة ضايعة»: الكاريكاتير التلفزيوني

جملة العناصر المتوفرة في المسلسل الكوميدي «ضيعة ضايعة» تجعل منه عملاً من نوع خاص، بدءاً من فكرته، وتشكيلها في بناء دراميّ، مروراً بالحكايات التي تقوم عليها الحلقات المتصلة المنفصلة، إلى أداء الممثلين، وحتى خيارات المخرج البصرية.. كل ذلك يعطي لهذا المسلسل مساحة من الاختلاف لم نعد نراها منذ زمن طويل.

هذه العناصر تجعل من «ضيعة ضايعة» لا على قدر عالٍ وكبير من الاختلاف وحسب، بل نسيج وحده. فعلى الرغم من كونه يبدو، للوهلة الأولى، عملاً خفيفاً، حيث يشعر المشاهد أنْ لا قضية محدّدة يطرحها، أو موضوعاً بعينه، سوى أنه سيجده، في العمق، يغنّي البراءة المفقودة في روح الإنسان والطبيعة، في مواءمة فريدة من بابها، إذ ينفتح التلقي على مستويات عدة، لعلّ أقلها السياسي، مع المحافظة على القيم الفنية.

(أم الطنافس الفوقا) مكان الأحداث، هي قرية سورية لم تصلها حمّى التكنولوجيا التي سلبت العالم طلاقته وانطلاقه العفويّ، وحولته إلى متوحش استهلاك، لذا، وبناء على هذه الفكرة التي تُعلن في بداية كلّ حلقة، سنجد كلّ شيء طبيعياً هناك، فالحياة لم يصلها الفساد، ولم يصبها التلوث، وهذا ما سيجعلنا، في عملية المشاهدة، نطالع بيئة وناساً خاماً، لينفتح التلقي، بالتالي، على الفعل الإنساني فقط، في شكليه الأوليين: الخيّر والشرّير.. اللذين يتسع بيكارهما كلما اتسعت الأحداث. وهذه الطريقة تعيد الدراما إلى ينابيعها الأولى، ليبرز، ههنا، وبكل جدارة، عمل الممثلين.. (مع الأخذ بعين الاهتمام والعناية أن النصّ وكاميرا المخرج وكامل العمليات الفنية تسخّر نفسها بالكامل للممثل).

هناك.. في (أم الطنافس الفوقا)، ضيعتنا الضايعة، الفضاء المكاني للأحداث الدرامية، والعنصر البنائي الذي لا غنى عنه، والذي لولاه ما كان للعمل أن يكتسب أهميته، لكونه لعب دور البطولة المطلقة.. يعيش أسعد خرشوف (نضال سيجري) وجودة أبو خميس (باسم ياخور). وهذان الجاران هما الشخصيتان الأساسيتان اللتان تتمحور حولهما الأحداث، فحيث نجد أن أسعد ساذج، أبيض السّريرة، وجودة ماكر ومحتال، ستصبح الأحداث رصداً لهذه المفارقات، إذ دائماً ما يكون أسعد صاحب الحظ الطيب، وجودة من يعمل بؤرة تأجيج الفعل الأساسيّ، من خلال انعكاسه عليه. هذه الثنائية تضع المشاهد في أتون لعبة طالما لعبتها السينما، حيث نعثر على أكثر من صلة نسب لها: رويل وهاردي، عالمياً، ودريد ونهاد، عربياً. إنه عمل الممثل حقاً. مسرح لحضور الجسديّ. جودة وأسعد ليسا كركترين، هما، في الحقيقة، كاريكتاريان، خاصة إذا ما وضعنا في الحسبان أن مؤلف العمل د. ممدوح حمادة يحمل شهادة دكتوراه في فنّ الكاريكاتير. ولن تتوقف الشخصيات الكاريكاتورية عند أسعد وجودة، بل ستشمل عموم أهالي القرية: المختار عبد السلام البيسي (زهير رمضان) من فقد قيمته كسلطة ولم يعد أحد بحاجة إليه. عادل الفسّاد (ناصر مرقبي) عضو الجمعية الفلاحية، و«كتّيب» التقارير، ومالك الجرار الزراعي الوحيد في القرية. وكذلك المثقف القروي سليم أو سلنغو (فادي صبيح)، ورئيس المخفر أبو نادر (جرجس جبارة)، ورجل الأمن محسن (جمال العلي) المشهور بعبارة: «يا هم لالي».. كذلك المساحة الرائعة للشخصيات النسائية: بديعة (آمال سعد الدين) وذيبة (تولاي هارون) وعفوفة (رواد عليو).. هذا اللفيف من الشخصيات يشكّل عمود المسلسل، ونخاعه الشوكيّ. وبالإضافة إلى اللهجة البكر درامياً، وفكرة ترجمتها في حاشية الشاشة، ستشكل حالة إبداعية شديدة الخصوصية، ذات صلة حاسمة بفنّ الكاريكاتير، مما سيضيف إلى الكوميديا بعداً جديداً غير مسبوق، بحيث يمكننا اعتبار «ضيعة ضايعة» كاريكاتيراً تلفزيونياً. ولئن اقتصر وجود النجوم على سيجري وياخور، وضيوف الحلقات، وبالإضافة إلى مدة الحلقة الواحدة لا تزيد عن نصف ساعة، مع بناء الكوميديا من فعل يصيب شخصيّة، ومن ثم رصد آثاره وعلاقاته بالشخصيات الأخرى، وعلاقتها به، حتى يُحلّ في الختام، فإن هذا يشير بصلة مع نوع الـ"السيت كوم"، لكن بمواصفات سورية، ومعايير جديدة تفرضها طبيعة العمل الريفي. وأما بخصوص الممثلين، فالنجاح الكبير من حظّ الممثلين، لا أهمية للنجم هنا، بمقدار تغدو الأهمية في تجسيد الشخصية، وبثّ دم وروح الحياة فيها، في عملية إبداعية باتت مفقودة في التلفزيونات، بعد أن صرنا مضطرين لمتابعة مؤدين، لا ممثلين. في «ضيعة ضايعة» الصورة تنعكس، وتعاد الكرامة لعمل الممثل، كركن أساسي لا محيد عنه.

kassioun.org@raedwahash

آخر تعديل على السبت, 26 تشرين2/نوفمبر 2016 22:42