صباح الخير يا ناجي
يرفع أحد الأثرياء كأسه ليشرب نخب بيارات فلسطين التي أقام ما يشبهها على سطح بنائه في بيروت، فيأتيه الرد كطلقة تصم الآذان وتحيل هذا الديكور المفترض إلى حبات رمل متبددة وسط سيل هادر.
هذا هو ناجي العلي الماشي على خطوط لا تتقاطع مع أي وسط من الحلول التي ركن إليها الكثيرون .
عودتنا ثقافتنا العربية على تاريخ فشل ذريع في أية مقاربة لما يسمى السيرة الذاتية، لأن أبطالها المفترضين قلما كانوا من لحم ودم نشعر ببصماتهم على صفحات حياتنا .
مثل هذا التحدي لم يغب عن مخرج بحجم عاطف الطيب وسيناريست مثل بشير الديك لكن الرغبة أقوى من رهاب الفشل، خاصة أن شخصية بصفات ناجي العلي لا تحتاج لكثير من الصقل حتى تنطق تفاصيلها الدرامية بصوت الجماعة عبر الأنا المعبرة عن كل ما نمتنع عن قوله جراء صدأ حبالنا الصوتية .
تلاقت رغبة منتجي الفيلم «مجلة فن عبر مديرها وليد الحسيني، ونور الشريف وبوسي» مع رغبة مخرج الفيلم وكاتبه بتقديم فيلم سياسي بالدرجة الأولى، تقود أحداثه السيرة الفلسطينية لناجي العلي، فرسوم ناجي تصلح لأن تكون الصدى الضائع لمراحل القضية الفلسطينية وتحولاتها، ينطلق هذا الصدى من حيث يجب أن ينتهي، ناجي في غرفة الانعاش وسط تكنهات حول هوية من جعل غربان الموت تحوم مبكرا فوق رأسه، تنتقل الصورة بعدها لتحكي سيرة الوجع مع حنظلة المرابط أبدا على حدود الحلم والألم، حلمه بفلسطين وألمه بواقع المخيم الذي حمله ناجي من لبنان إلى الكويت ولندن وبيروت مرة أخرى، كمسافر يرفض ما هو خارج محطاته العابرة مكتفيا برسومه الساخرة من كل ما يمنع وصول قافلته إلى محطتها النهائية في فلسطين. تحتفي الصورة جيدا بالمصير المتشابك لناجي ورسوماته مع تفاصيل التهجير والكفاح المسلح ورحلة المقاومة الفلسطينية من بيروت إلى منافي الخذلان العربي .
كينونة ناجي المعقدة سبب رئيسي في نجاح الفيلم وخلوده في الذاكرة فهو عاش كما أراد أن يكون لا تعرف ألوان المهادنة طريقا إلى بياض رسوماته، سيرورة رفضه المزمن، وصراعه مع عفن الأنظمة كانت أجدر برسم الحلم وتلوينه من انتقاداتنا ومحاولاتنا لستر عجزنا فأتت أحلامه لتحتوي أحلامنا وخيالاتنا المكبوتة بالحرية، ورغبتنا أن نكون ما نريد وتفتح هذا الطريق العلني بيننا نحن المشاهدين وبينه هو في علاقة مشهدية لا أ دوار ثابتة فيها لأحد فلم تعد الشخصية في الفيلم تمشي على خطها المرسوم سلفا بقدر ما تدفعها رغباتنا وتواطئنا نحو تخييل يبرر كل ما يمكن أن ننتقده في هكذا نوعية من الأفلام بل أكثر من ذلك أننا لا نقبل أن تكون الصورة غير ما نشتهي، وهذه مفارقة لا نقبلها في أي فيلم آخر، فلا يمكن أن يكون ناجي العلي إلا ما نريده أن يكون، البطل والضحية، الحكيم والعاثر، النبي والصليب في آن واحد .
ترك لنا ناجي العلي إرثا ثقيل الوطأة على قدراتنا وأصواتا تبحث عمن يردد أصداءها وجدير بالسينما أن تبحث عن هذا الصدى وتهمس به في مسامع مخيلتنا.