حازم رسلان حازم رسلان

منمنمات تاريخيّة.. ومحنة العلم

إشكالي هو مسرح سعد الله ونوس، يطرح قضاياه بطريقة تستفز العقل، تجعله يعيد النظر بالمسلمات، يطرح التاريخ كواقع وكمستقبل أيضاً، هو ذلك النمط من الأدب «الأدب التنبؤي».

في منمنمات تاريخية، يمضي ونوس ليناقش جدلية العلاقة بين المثقف والمجتمع، أي: من هو المثقف، وماذا نريد منه؟ حيث يتناول شخصية ابن خلدون  العالم الكبير ويسلط عليه الضوء من خلال  ما يدور بينه وبين تلميذه شرف الدين من نقاش ومن خلال تصرفاته في زمنه أي زمن الغزو المغولي بزعامة تيمورلنك ذلك الزمن الذي ضعفت فيه الدولة الإسلامية وتهاوت أركانها.

و أمام هذا التهاوي يقف ابن خلدون ليحلل ويستنتج سبب  ضعف الدولة العربية وسبب قوة تيمورلنك لكن تلميذه شرف الدين يتساءل قائلا «أليس من مهمة العالم أن ينير للناس ضوءاً إلى سبيل يخرج بهم من الانحطاط ؟لكن ابن خلدون يخالفه الرأي فيجيب «لا ليست هذه مهمة العالم، إن مهمة العالم أن يحلل الواقع كما هو وأن يكشف كيفيات الأحداث وأسبابها العميقة»وإن كنت أوافق شرف الدين فيما طرح انطلاقا من أن للعالم المثقف وظيفة اجتماعية أي أنه على علاقة مباشرة بالمجتمع وإذا كانت الثقافة أو العلم «كيانات»حيادية بحد ذاتها فالشخص الذي يتعامل معها لا يجوز أن يكون حياديا بأية حال من الأحوال وأن يكون له موقف مما يحدث، و دراسة الواقع وتحليله ليست هدفا بحد ذاتها وإنما وسيلة لتفسير الواقع ثم إيجاد الوسائل الأفضل لتغيره ورسم صورة للواقع الأفضل الذي يفترض أن يكون.

وإن كان المثقف لا يملك القدرة على إحداث التغيير المنشود، إلا أنه يلعب الدور الكبير من خلال قدرته على التأثير على جموع الشعب بما يطرح من حلول وبقدرته على التعبير عن معاناة  الشعب أحلامه وتطلعاته، أي أن يكون بمثابة الضمير الجمعي في المجتمع، لذلك جاء احتجاج شرف الدين على ابن خلدون «لو أن سيدي يثق بالشعب ويوليه ما أولى الملوك من النظر والاهتمام» لكن ابن خلدون يجيبه «الناس بلا عصبية رعية بلا طول ولا حول؟» ولكن الواقع يقول إن الشعب بجموعه يستطيع -إذا وجه بالشكل الأنسب -أن يجترح المعجزات، أن يقهر غازياً ويشيد دولةً و سلطاناً، والذي يلعب دور الموجه هو العالم المثقف ولذلك كانت محاكمته كما يقول عبد الرحمن منيف «أشد صرامة وأكثر إلحاحاً».

 و لم يكتف ابن خلدون بحياده بل سرعان ما مثل بين يدي تيمور وامتثل لرغبته في تأليف كتاب يصف فيه المغرب الأمر الذي فاجأ شرف الدين ودفعه للتساؤل باستنكار: «هل يقتضي العلم أن أبيع وطني وأهلي وبلدي لقاء منصب أو جاه؟» فالقول إن المجتمع لم يفرز النخبة من مثقفيه لتخدم السلطان وتمشي في ركابه، بل إن وجودهم ضرورةحتمية في ظل ما يعانيه المجتمع من معضلات تتطلب الحل، ثم الثقافة بحد ذاتها تفرض على المثقف مبدأ النزاهة ومن يستغل ثقافته وعلمه لخدمة السلطان فقد فقدَ احترام مجتمعه أولا و أهميته كمشتغل بالثقافة ثانيا.

هذه تفصيلات صغيرة من منمنمات ونوس، تفصيلات تحاول إعادة النظر بالمثقف كعضو في المجتمع وفاعل فيه ،نحو إعادة تعريفه ووضعه في مكانه المناسب.