تراث الهوامل والشوامل
الهوامل في اللغة صفة تطلق على الإبل الشاردة والمتبعثرة، التي لاتجمعها عصا راعِ، ولاينظمها التواجد في قطيع، أما الشوامل فهي صفة الإبل المتجمعة في قطعان، والتي تسيرها وتنظمها عصا الراعي، وباستعارة هاتين الصفتين بدلالاتهما المتعددة، ظهر واحد من أكثر الكتب الفلسفية الإسلامية تميزاًُ وجرأةً وفرادة، أي كتاب «الهوامل والشوامل»، الذي جمع في تأليفه إثنين من كبار مفكري القرن الرابع الهجري، تميز كلٌ منهما بموقع فكري واجتماعي مختلف عن موقع زميله.
ففي الجانب الأول نجد أبا حيان التوحيدي، الفيلسوف والأديب المتمرد على قيم عصره، والذي لم تقدر مواهبه وقدراته المعرفية المتميزة، فقضى حياته شريداً يعاني العوز والفاقه، دون أن يتمكن من الحصول على منصب أعلى من منصب ناسخ كتب، في الزمن الذي التحق فيه المثقفون بالسلطة التحاقاً كاملاً، فنالوا منها أرفع المناصب وأكبر الامتيازات، مقابل وضعهم لخبراتهم ومعارفهم في تصرفها. لقد أعيت تلك المعادلة أبا حيان ففشل في التأقلم معها، ليجد نفسه منبوذاً خارج الأطر الرسمية للثقافة، مما أورثه الكثير من المرارة، فكان دائماً رافضاً لزمنه ومرفوضاً منه.
وفي الجانب الآخر نجد أحمد بن مسكويه، الفيلسوف والمثقف التقليدي، والابن البار لعصره، بكل أعرافه الثقافية والاجتماعية، والذي استطاع أن يستوعب -دون ابداع حقيقي- خلاصة المعارف السائدة في أيامه، ذات الطابع العقلاني الصوري والسكولائي (المدرسي)، مما مكنه من أن ينال مكانة لدى السلطة تتناسب مع موقعه الفكري، فكان خازن الكتب عند عضد الدولة البويهي، الأمر الذي جعله المعبر الأكثر توازاناً عن كل ماهو يقيني ومستقر في معرفة ذلك الزمن.
يمكننا إذاً؛ أن نتوقع منذ البداية نتيجة اجتماع هذين القطبين الفكريين المتناقضين في كتاب ذي طابع سجالي ككتاب الهوامل والشوامل، والذي تتلخض بنيته بأسئلة إشكالية مسبوكة بعناية واتقان، يطرحها التوحيدي على ابن مسكويه، ليجاوب عليها الأخير بشكل منهجي ومنتظم، وهكذا تأتي أسئلة التوحيدي المبعثرة والمشتتة كالجمال الهوامل، في حين يحاول ابن مسكوي استيعاب أسئلة التوحيدي الهوامل، واحاطتها باجاباته المنتظمة كالجمال الشوامل.
وبإمكاننا أن نستقرأ دلالات أخرى أكثر عمقاً مما يبديه لنا الكتاب في مستواه الظاهري والسطحي، فشوامل ابن مسكويه، لم تكن مجرد إجابات فلسفية منهجية ذات طابع مغرق في اليقينية، بل كانت شوامل ذلك العصر، أي أنها تمثل كل الضوابط الفكرية والمعرفية والاجتماعية والسياسية التي عرفها ذلك الزمن، والتي التزم بها ابن مسكويه في حياته وفكره وانتاجه الثقافي، حيث لامعرفة جديدة يمكن إضافتها على على ما يأتينا به القياس البرهاني القائم على المنطق الصوري الأرسطي، الذي يعبر عن الأشياء والعلاقات في استقرارها وجواهرها الثابتة: فـ«جميع قضايا العقل هي أبدية واجبة على حال واحدة أزلية لايجوز أن تتغير عن حالها» على حد تعبير ابن مسكويه، كما أنه لا انتاج ثقافياً ممكناً خارج الأطر الثقافية التي تفرضها وتنظمها السلطة، ولاتصور ممكن عن مجتمع آخر مختلف عن المجتمع الحالي.
أما هوامل أبي حيان التوحيدي فقد كانت مجموعة من الأسئلة المشتتة التي لا ينظمها أي رابط أو ضابط، و لا تبحث عن إجابة بقدر ما تسعى إلى مساءلة عصرها وانتقاده، وزعزعة كل المسلمات والبدهيات المستقرة والمترسخة في الأذهان، فقد تمردت تلك الأسئلة على كل الضوابط والمحددات والسياقات الفكرية السائدة، وركزت على الظواهر والأشياء في تناقضاتها وتحولاتها واختلافاتها، ومن هنا يمكننا أن نفهم سبب ارتباك ابن مسكويه، وقيامه بلوم التوحيدي على أسئلته أكثر من مرة قبل أن يشرع بالإجابة عليها، فإذا كانت إجاباته لا تستطيع أن تقدم جديداً إلى ما هو سائد على الصعيد المعرفي، فإن أسئلة التوحيدي كانت قادرة من خلال خلخلتها للسائد على فتح آفاق جديدة.
وهكذا فقد نجح التوحيدي بالقيام بمهمة المثقف النقدي على أكمل وجه، حيث استطاع أن يرفع إلى مستوى السؤال الفلسفي الكثير من القضايا التي استصغرها عصره أو تجاهلها، فأفسح بذلك مجالاً للأفكار والأسئلة الهوامل ضمن حضارة عرفت بشواملها.
■ محمد سامي الكيال
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.