صورة المرأة في أرشيف الذكورة (2)
«المرأة الشرقية ليست أكثر من آلة، فهي لا تفرق بين رجل وآخر»!!
بهذه الكلمات الوجيزة لخَّص الأديب الفرنسي الشهير غوستاف فلوبير حصيلة تجاربه الجنسية والعاطفية في «الشرق»، ليعبر بأكثر الأشكال تكثيفاً عن خطاب ذكوري من طراز خاص، ساهم إلى جانب الخطاب الذكوري العربي في رسم صورة تمثيل المرأة في مخيالنا المعاصر، ألا وهو الخطاب الإستشراقي.
في الواقع لم يكن فلوبير يهدف من كلماته تلك إلى الإهانة أو الإساءة المتعمدتين، بقدر ما كان ينطلق من العناصر والأساسيات الأولية التي يقوم عليها الخطاب الإستشراقي الكلاسيكي، وهو خطاب ذكوري بطبعه في كل ما يخصُّ موضوع دراساته، أي «الشرق» بوصفه محصلة لإنشاء معرفي غربي، انبنى على مجموعة من المحددات والتصورات الضرورية لتمثل العقل الغربي للمنطقة الواقعة شرقي أوروبا، ولإخضاعها معرفياً لمتطلبات الهيمنة الفكرية والسياسية الغربية. ووفقاً للعقلية الذكورية السائدة في الغرب فقد تطلبت عملية الإخضاع المعرفي تلك تأنيث «الشرق» بأكمله، أي إعطاءه كل صفات الخضوع «الأنثوية» التي تتصورها العقلية الذكورية، ومن ثم تحويله إلى موضوع خامل وخانع للدراسة والبحث والاختراق الغربي.
وهكذا فإن الخطاب الإستشراقي قد انطلق من محددات النظرة الذكورية سواءً أعالج القضايا المتعلقة بالمرأة «الشرقية» أو لم يفعل، وهو عندما يحاول أن يتمثل المرأة في الشرق تصبح نزعته الذكورية مضاعفة، فالمرأة تتحول إلى رمز مكثف لكل سلبية وضعف «الشرق»، وقابليته للإخضاع، ولامبالاته تجاه هوية مُخضعِه. وقد كان لدى الإستشراق ما يعزز ويرسخ تصوراته تلك في الخطاب الذي صاغه الكُتَّاب المسلمون عن المرأة في القرون الوسطى، والذي تُرجمت أهم أدبياته إلى اللغات الأوروبية في فترة مبكرة، وقُرئت قراءةً خاصة تتناسب مع أولويات العقل الغربي (وكمثال فإن كتاب «تحفة العروس ومتعة النفوس» للتجاني قد ترجم إلى اللغة الفرنسية لأول مرة في عام 1848 م).
من هنا فإن ما كان يوجه أديباً بأهمية غوستاف فلوبير في رحلاته الشرقية هو ذلك التصور النمطي عن شرق أنثوي خاضع، اختزل إلى مجرد موضوع لاكتشاف وسيطرة الغرب كذات ذكورية مهيمنة ومتسيدة... إن شرقاً بهذه المواصفات قد أثار الخيال الأدبي لمعظم كُتَّاب أوروبا، بسبب ما يعد به من إشباع لكل ما كبتته الحداثة والثورة الصناعية الأوروبية من رغبات ونزعات لدى الإنسان الأوربي. وإلى ذلك الشرق الحافل بالوعود الروحانية والجنسانية شدَّ فلوبير الرحال، وبين نسائه الخارجات من بين ثنايا حكايات ألف ليلة وليلة، وسرديات الكتاب الأيروتيكيين المسلمين كالتجاني والنفزاوي والتيفاشي، تمنى أن يعيش جنسانيته الهاربة من قيود الجنسانية المتزمتة التي عرفتها أوروبا منذ العصر الفيكتوري، ولكن دون أن يتخلى عن امتيازاته كفاتح غربي، بكل ما تحمله هذه الصفة من دلالات.
بهذه العقلية خاض فلوبير تجاربه الجنسية مع نساء «الشرق»، وإذا كان «الشرق» الواقعي يختلف كثيراً عن «الشرق» الذي ابتدعه الخيال الإستشراقي الأدبي، فإن فلوبير وجد ضالته أخيراً في عالم المواخير والمباغي، حيث عثر على نموذجه المبتغى عن المرأة الشرقية في شخصية العالمة (والعالمة مزيج من الراقصة وبائعة الهوى في اللهجة العامية المصرية) «كشك هانم» التي تحولت إلى النموذج الأولي الذي بنيت عليه كل الشخصيات الروائية النسائية التي حفلت بها أعمال فلوبير الأدبية ذات «الروح الشرقية»، فتلك المرأة بجنسانيتها المنطلقة، وخضوعها المطلق، ولامبالاتها تجاه الرجال الذين يتوجب عليها أن تتقبل سيطرتهم على جسدها، مثلت في مخيلة فلوبير المرأة والشرق كما يجب أن يكونا.
وإذا قارنا بين الخطاب الذكوري العربي التقليدي الذي درسناه لدى التجاني، وبين الخطاب الإستشراقي الذي نلاحظه لدى فلوبير، سنجد أن بنية التفكير التي قام عليها كلا الخطابين متشابهة إلى درجة كبيرة، رغم الهوة الزمنية والثقافية الكبيرة التي تفصل بين الكاتبين، ففلوبير يقوم بالعمليات الفكرية نفسها التي عرفناها لدى التجاني، فهو يقوم أولاً باختزال المرأة «الشرقية» إلى مجرد موضوع لتلذذ ومتعة الذات الذكورية الغربية، ثم يشيئها بوصفها مادة معرفية للعقل الغربي، ليعيد ربطها بمتطلبات سلطة وهيمنة الذكر الغربي. الفارق الأساسي بين التجاني وفلوبير هو أن الأول يتحدث عن المرأة بوصفها نوعاً جنسياً فقط، في حين يتحدث عنها الثاني بوصفها رمزاً مكثفاً لعالم كامل هو «الشرق» بالإضافة لكونها نوعاً جنسياً. وهكذا كانت سيطرة فلوبير على جسد «كشك هانم» تمثل في لاوعيه إعادة إنتاج لسيطرة الغرب على أراضي ومقدرات «الشرق».
إن الخطاب الإستشراقي لم يعد محصوراً بالغربيين وحدهم، فهو قد ساهم منذ مدة طويلة في صياغة نظرة الشرقيين إلى ذاتهم، ولذلك فإن نموذج المرأة-الآلة التي يتحدث عنه فلوبير ليس غريباً عن وعينا العربي، بل هو عنصر أساسي في بنية هذا الوعي.
ومهما تنوعت أشكال صورة تمثيل المرأة في الخطاب الذكوري فإنها لن تشذَّ عن تلك العناصر التي تظهر بوضوح في إنشاء كل من التجاني وفلوبير، والتي لا تزال تحكم عقلنا ومخيالنا الجمعي بشكل لا فكاك منه، في ظل عدم تبلور الخطاب النسوي العربي البديل والمضاد.