ولكن..ماذا يحدث لو كان للحكي جمرك؟
لم يعد الصمت فضيلة، فالحكمة التي ترى في الكلام«فضة»، لن تجد اليوم من يوافقها على أن السكوت من ذهب. الصمت فضيلة الحمقى فحسب. لا احد يرغب بأن ينصت إلى الآخر، فالمهم أن تحكي أنت، وأن تنطق بكل ما يخطر في بالك. انثر جواهرك على الطاولة: من حالة الطقس باعتبارها مفتاحاً لكل الأحاديث السمجة، إلى ارتفاع سعر«الطماطم، والبقدونس..» مروراً بالحروب الاستباقية، والخطط الحكومية الفاشلة، ومغامراتك العاطفية التي تُكلل على الدوام بالانتصارات الساحقة، وانتهاء بعروض الأزياء وعمليات التجميل، وأغاني نانسي عجرم. ألست عبقرياً لم يكتشف مواهبه أحد؟ من حقك إذاً أن تعوّض بعض خسائرك بمصادرة رأي الآخر، فهو في أحسن الأحوال مجرد طبل أجوف، مهمته أن يتلقى ضرباتك وصدى صوتك.
في مشهد آخر مكرر، وفي حال اجتمع عبقريان بالمواصفات نفسها، ومن العيار الثقيل ذاته، سوف يكون الإرسال والتلقي على موجة واحدة، كلاهما يحكي، فالإنصات ليس مهماً، المهم هنا البث المباشر، كما لو أن الأمر يحدث في محطة «f.m» متنقلة، وأن تتخلص من مخزونك الفائض من الحكي، فهناك من يكنس كلامك في آخر الجلسة، ويضعه في سلة المهملات. إذا قلت أنك تشعر بصداع، فستأتيك الإجابة على الفور باستعمال برشامة من نوع ما، وإذا حاولت أن تشرد مع نفسك قليلاً، فإن لكمة لفظية بانتظارك، وسلة كاملة من الثمار الشهية: مانغا عاطفية، ومشمش سياسة، وكستناء أكاذيب. لن يصادفك أحد يحمل في قاموسه اليومي عبارة «لا أعلم». من سائق التاكسي إلى صاحب البقالية المجاورة لمنزلك، فما بالك بمحيطك (الثقافي)، فهنا مربط الفرس، أليس مهنته صناعة الكلام؟ هنا في هذا «السوبر ماركت» المفتوح ليلاً ونهاراً، ستجد كل البضائع، المحلية والمستوردة، من إبرة الحداثة، إلى «كبكوبة» الرواية، مروراً بالبطاطا المجففة للنقد الأدبي والسينمائي والتشكيلي والمسرحي، بكل النكهات، مع الفلفل الحار، والأجبان. لكل سؤال مهما كان صعباً، إجابة جاهزة، فالرفوف تغص بكل ما يخطر في بالك. هناك من يحدثك عن رواية لم يتصفحها بعد، وعن الخطط السرية للمحافظين الجدد، وأين تسهر هيفاء وهبي في هذه اللحظة، ويهز رأسه ببطء، نظراً لثقل المعرفة في دماغه، ثم يكمل حديثه(الشيّق؟)، في أمور العباد في أنحاء المعمورة كافة، من دون توقف، فالبطارية مشحونة على الدوام، إيماناً بمقولة «ليس على الحكي جمرك». ولكن ماذا سوف يحصل لو كان للحكي فاتورة فعلاً؟
كم من الوعود الكاذبة، سيتردد أصحابها كثيراً، قبل أن ينطقوا بها، ابتداء من كلمة «أحبك» سيئة الصيت، والتي ينطقها العاشق المتيم لثلاث فتيات مختلفات في اليوم الواحد: مرة هاتفياً، ومرة عبر البريد الالكتروني، وثالثة وجهاً لوجه.. (أعرف أحدهم، يكتب «مسج» موحّد، لأكثر من فتاة، في آن واحد، وينتظر النتيجة، التي لا بد أن تصيب الهدف لدى إحداهن)، وأقرأ جرائد محلية تغص بوعود تحسين رفاهية المواطن، ومحاربة الفساد، ونزاهة القضاء، لكنها تتراجع عن أقوالها، قبل أن يجف الحبر. وأعرف مثقفين مختصين بكتابة وعود انتخابية لمرشحين أميين. وفي المقابل، أليس علينا أن نتذكر أطناناً من الوعود السياسية العربية الغاضبة، من«لاءات» قمة الخرطوم الشهيرة إلى اليوم، في ما يخص فلسطين وحدها، فما بالك ببقية الخريطة العربية الممزقة؟
ماذا لو استفدنا من ثروة الكلام العربية المهدورة، أليس لدينا أطنان منها، فهي ثروة قومية حقاً، تتفوق على كل ما لدينا من كمية الذهب الأبيض، والذهب الأسود، والذهب الأصفر؟
ألم تلتفت المحطات الفضائية مبكراً إلى قيمة هذه الثروة، وتعتمد على ملايين المهووسين في الاتصالات، للتصويت لفتى معتوه، أو فتاة متلعثمة، كي يصلا إلى سلم النجومية؟ أو لكتابة رسائل لا معنى لها إلى ريم البوادي أو إلى خيّال المرسيدس؟
وإذا كنا إلى اليوم خارج قوائم «موسوعة غينيس» للأرقام القياسية، فإننا بالتأكيد، سوف نحصل على حصتنا في رأس القائمة في ما يتعلق بالكلام المجاني، وابتكار الشعارات، فلكل مؤتمر أو مهرجان شعار رنّان، سرعان ما يخفت بريقه، حتى قبل أن ينسحب الحضور من القاعة، وفي الغالب، فإن هذا الشعار يتمحور حول «نحو مستقبل أفضل»، والغريب حقاً، أننا ننظر بحنين لا يوصف إلى الماضي وحسب، فنحن نتغنى بماضي الأجداد، أكثر مما ننظر باحترام للحظة المعاشة. نخترع انتصارات وأبطالاً وأضرحة، كي نحكي عن مآثر أصحابها(أليسوا أجدادنا؟).
تعالوا أخيراً، نقف أمام المرآة صباح كل يوم، ونحصي حصيلتنا من أكاذيب الأمس. الكذب الأبيض والكذب الأسود، والكذب الرمادي!
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.