مطبات عتبات الذل
قبل أن تضع أم خالد رأسها في استراحته الأخيرة سالت دمعتان خائرتان على مفرق عينها اليسرى ومضت، عاد الأبناء من العمل.. الأم ميتة بصمت سوى دمعة متوقفة عند الخد المتهدل.
قضت أم خالد السنوات العشر الأخيرة من عمرها في العمل، بعد أكثر من خمسين عاماً في عهدة الزوج الذي لم يكن يسمح لها بالخروج من المنزل، كانت حياتها هادئة ومليئة، وكانت يدها العليا في التدبير وقيادة شأن الأسرة، مات الزوج الذي كان سياجها المنيع، كبر الأولاد، تزوج من تزوج، وقعد عن العمل من قعد، وتوالت الغصات على أم خالد، والأبناء بالكاد يستطيعون تدبر أمورهم، ودخلت في وحدة قاهرة.
أخذتها إحدى الجارات للعمل في البيوت الوثيرة، ثم وجدت نفسها موظفة في حديقة، ثم مستخدمة لدى طبيب، ثم بائعة دخان مهرب... تعلمت أم خالد كيف تذهب إلى دمشق، كيف تتوارى عن أعين شرطة المحافظة، كيف تركب السرفيس إلى قريتها وهي لا تعرف القراءة، ومدت يدها لتعين الأبناء الذين تركوها لوحدتها... لكنها لم تكن تترك ليلة تمر دون دموع، عشر سنوات بليال باكية.. وهكذا كانت ليلتها الأخيرة.
قصة أم خالد ليست بأكثر بؤساً من غيرها، ثمة قصص مؤلمة ومريرة، لكن ليس من متسع لمزيد من البكائيات والمراثي على ضحايا العوز، والتردي الذي ساق (الحرّات) إلى مواقع الخدم، الأمهات إلى عاملات قمامة في البيوت الباردة والخالية من الدفء.
كيف صارت أم خالد خادمة؟ هنا السؤال؟ ولماذا صارت ظاهرة عمل المرأة نوعاً من النخاسة؟
لم تزل (باسمة) تذهب إلى دوامها يومياً منذ أن فرحت بتعيينها في الحكومة، ثم توالت الأيام المملة، الاستيقاظ الصباحي النشيط ثم المتكاسل بعد أن جاء الولد الأول إلى الحياة، والركوب الطويل في مواصلات الدولة ثم سرافيس القطاع الخاص، ثم الروتين القاتل لمعاملات المواطنين، التواقيع الكثيرة، الأختام الملونة بالأزرق والأحمر التي كانت في البداية دليل ثقة ومسؤولية، ثم صارت مللاً يفتك باليدين وبالأعصاب.
باسمة بعد العام العشرين من الوظيفة، متعبة ووحيدة على أريكة في صالون المنزل المتواضع، وعلى الأخرى زوجها الموظف، منذ سنوات لم يلتقيا في غرفة النوم، ولم يجلسا على طاولة الغداء، ولم يتمكن الأب من سؤال أي من أبنائه عن مدرسته، ولم تتمكن من تحفيظ ابنها نشيداً عن الوطن، أو تستمع إلى أغنية في المطبخ، أو إلى إذاعة محلية تافهة، أو إلى زاوية الأبراج.. باسمة التي نسيت في زحمة الحياة والعمل معنى اسمها.
على مفارق البلد، على ناصيات الشوارع، في الزواريب، أمهات ولدن في ظل الأزمات المتتالية لاقتصادنا المأخوذ من رقبته إلى الشوارع الصامتة، اقتصادنا الذي يأخذ جموع النسوة إلى الشوارع المكتظة بالجائعين والجائعات، إلى الفلاحات اللواتي سرقن من البساتين إلى الشوارع، الأمهات المسروقات من المنازل والأولاد إلى الوظيفة.. البيوت المسكونة برائحة الحرام، البيوت النظيفة حتى من السهرة أمام مسلسل سخيف.
على أبواب الوطن، ثمة نساء ينتظرن على أحر من جهنم عودة ابن من المغترب ليعود بقليل من الريالات ليبني بيتاً من اسمنت لعروسه التي تزوجت إلى الخليج بمليون ليرة مقدم نكاح، أو عامل قادته الحاجة للسفر إلى قبرص ليشتري عند عودته (سرفيس) أبيض اللون على خط قريته.
على أبواب البيوت، على عتبات الذل، ثمة أمهات بعن أساور عرسهن، قطعة أرض ورثنها عن أموات صاروا رماداً، من أجل أن يزوجن عاطلاً عن العمل لم يسجل في مكاتب وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، أو جامعي ينتظر مسابقة حكومية.
على عتبات الذل.. ماتت كثيرات مثل أم خالد بدموعهن.