شاعر المملكة
ماذا لو أمر السلطان أن يُحرق آخر الشعراء في مملكته؟ هل كانت الأنهار والجداول ستغير مجراها لفقدها ذلك المغني النبيل؟ هل نُصلي لأنه قال في اللحظة الأخيرة : فكوا قيده؟ الحق أني لا أعتقد كثيراً أن هناك سلطاناً في مثل هذا الذكاء والفطنة والألمعية. ولكن أعتقد أيضاً أن وجود بعض الشعراء الأحرار واجب في المجتمعات الإنسانية. وهل يوجد شعراء عبيد.
أُعيد هنا بتصرف صياغة الحكاية التي جاءت في كتاب «داغستان بلدي» للشاعر العظيم رسول حمزاتوف. وقد ترجم الكتاب إلى العربية الأديب السوري عبدالمعين الملوحي ونشره في مجلة «الآداب الأجنبية» تموز عام 1975.
عاش في أحد البلاد المتاخمة لحدود الصحراء شعراء شعبيون يجوبون القرى الطينية وينشدون أغانيهم على الربابة. وكان سلطان تلك البلاد -إذا لم تشغله أعماله أو نساؤه- يُحب أن يستمع إلى أغاني هؤلاء الشعراء. وفي يوم من الأيام سمع أغنية تتحدث عن ظلم السلطان واستبداده وقسوته. فأمر بالبحث عن الشاعر الذي يُنشد هذه الأغنية التي تحضّ على عصيان السلطان، وأن يُؤتى به إلى القصر. ولم يستطع أحد العثور على الشاعر. وعندئذ أمر السلطان وزراءه وجنوده بالقبض على الشعراء في المملكة جميعهم.
هجم جنود السلطان مثل كلاب الصيد على القرى، والواحات، والشعاب الموحشة، وقبضوا على كل من كتب شعراً، وألقوا بهم في سجون القصر السلطاني. وفي صباح اليوم التالي جاء السلطان ليرى الشعراء المساجين: «حسناً. على كل واحد منكم أن يُغني أغنية واحدة». وبدأ الشعراء يغنون واحد بعد واحد، يمجدون السلطان، وفكره النير، وقلبه الطيب، ونساءه الجميلات، وقوته وعظمته ومجده. وقالوا في أغانيهم إن الأرض لم تشهد قط مثل هذا السلطان في عظمته وعدله. ويجب أن يسود سلطانه الصحراء بجهاتها الأربع. وأطلق الملك سراح من غناه من الشعراء. ولم يبق في السجن غير ثلاثة شعراء لم يستمع إلى أغانيهم. تركوهم في السجن. وظن الناس أن الملك نسيهم. ومع ذلك عاد الملك بعد ثلاثة أشهر ليرى الشعراء المساجين: «حسناً. على كل واحد أن يُغني أغنية واحدة».
جعل شاعر منهم يغني ويُمجد الملك وفكره النير وقلبه الطيب ونساءه الجميلات وقوته وعظمته ومجده. وقال في أغنيته إن الأرض لم تشهد قط مثل هذا الملك في عظمته وعدله. وأطلق الملك سراح الشاعر. وبقي شاعران رفضا الغناء. فأمر الملك بنقلهما إلى محرقة أُعدت في الساحة العامة. وقال الملك: «سنلقيكم في النار. هذا إنذار نهائي: غنياني إحدى أغانيكما». ولم يستطع واحد منهم أن يتماسك. وجعل يغني ويُمجد الملك. وأفرجوا عن هذا الشاعر.
لم يبق في الميدان إلا الشاعر “حديدان”، وهو الأخير الذي أبى في عناد أن يُغني. وأمر الملك: «اربطوه بالجذع وأشعلوا النار». وعندئذ أنشد الشاعر، وهو مربوط بالجذع، أغنيته الشهيرة عن قسوة الملك واستبداده وظلمه، تلك الأغنية التي كانت سبباً في كل ما حدث. فصرخ الملك في الجنود: «فكوا حباله. أخرجوه من النار». أنا لا أريد أن أفقد الشاعر الوحيد الحقيقي في مملكتي!