الصوت الهادر
أصدرت محكمة أميركية قبل شهرين حكمها على ضابط سابق في الجيش التشيلي بتهمة قتل المغني والشاعر والأستاذ الجامعي فيكتور جارا، صوت تشيلي الهادر أيام تجربة حكومة سيلفادور الليندي. لم يوجه الحكم المتأخر والفارغ من المضمون، الاتهام للمجرم الحقيقي: المخابرات المركزية الأميركية التي نظمت ونفذت ورعت انقلاب بينوشيه في ١١ أيلول ١٩٧٣. وقد ألهمت أغنيات جارا، ومازالت، أجيالاً في أميركا اللاتينية والعالم.
كان فيكتور جارا شاعراً ومخرجاً مسرحياً ومغنياً وأستاذاً جامعياً مرموقاً. انخرط مبكراً في العمل السياسي والنضال الاجتماعي من أجل تشيلي أفضل. وكان أحد أركان تحالف الوحدة الشعبية بقيادة الزعيم سيلفادور الليندي الذي حكم تشيلي لثلاث سنوات، انتهت بالانقلاب الذي دبرته المخابرات الأميركية عام ١٩٧٣.
كان «جارا»، مثقف من طراز رفيع، يؤمن بقدرة الثقافة الشعبية على بناء الوعي الثوري، أوصل أغانيه ومسرحياته إلى الشوارع والملاعب في حفلات مجانية، بهدف ربط الجمهور العادي بالسياسة. تناولت أغانيه الثورة والعمال والعائلة والأرض والحب، فنشيده «قَسَمُ العامل» كان بمثابة منشور ثوري يوحد العمال والفلاحين ومهمشي تشيلي، وهوما لم يفت على القوى الرجعية في تشيلي. وصار هدفاً مباشراً لها عندما غنى عن «الفلاحين في بيرتو مونت» وهم الذين قتلهم بوليس وزير الداخلية بعدما رفضوا الخروج من أرض خاصة أقاموا أكواخهم الرّثة عليها. قتل وقتها عشرة فلاحين عزّل بينهم طفل، فغنى جارا: «كل أمطار الجنوب لن تغسل يديك يا سيد بيريز زوجوفيك». جرى اغتيال السيد زوجوفيك، فاعتبر جارا المحرّض المباشر على اغتياله.
كانت المخابرات الأميركية، بعد مقتل سلفادور الليندي، قد أعدت قوائم بأسماء اليساريين الذين يجب تصفيتهم لضمان سقوط النظام نهائياً. وهكذا انطلقت قوات الانقلابيين تجمع هؤلاء من بيوتهم وأماكن عملهم وجامعاتهم وأرسلتهم إلى ستاد المدينة الرئيسي. أكثر من ٣١٠٠ من خيرة شباب تشيلي عذبوا تعذيباً بشعاً وقتلوا بدم بارد وهم عزّل في ذلك الملعب الحزين.
كان فيكتور جارا أحد هؤلاء مع حوالى ٨٠٠ من طلبة وأساتذة جامعة سانتياغو. أكد بعض الناجين القلة من المذبحة أنّ ساعات حياة فيكتور الأخيرة كانت مليئة بالتحدي. كتب قصيدة «ستاد تشيلي» يهجو فيها سجانيه وأسيادهم الأميركيين، وقد نجح بعض الشجعان في تهريبها ونشرها. ويقال إنّه قبل أن يقتل وقف يغنّي للثورة والحرية وتشيلي. أطلقوا عليه ٤٤ طلقة ليسكتوه. أصابعه الطويلة الجميلة التي كانت تعزف الغيتار، كانت مشوهة بالرصاص. إنه الحقد الأسود على كل ما كان يمثله جارا كرمز.
قرار المحكمة فارغ المضمون. العدالة لن تتحقق لأن القتلة الحقيقيين في الإدارة الأميركية طلقاء، والأدهى أنهم ما زالوا يمارسون جرائمهم في كل مكان حول العالم. وستظل موسيقى وأغاني «فيكتور جارا»، صوت فقراء تشيلي، تعيش وتلهم الأجيال في أميركا اللاتينية والعالم.