من أجل كلّ قطرة دم: الفعل عبر اللا فعل
قياسا للجرائم والمجازر التي ترتكب بحق الفلسطينيين من أبناء غزة، تكاد جميع التحركات العربية والدولية، الرسمية منها، والشعبية ألا تعادل قطرة دم نزت عن جبين طفل من هؤلاء الأطفال.
فماذا لو علمنا أن مجموع عدد الضحايا قارب من 1300 ضحية وأن 35 % منهم هم من الأطفال، وأن عدد المصابين والجرحى فاق 4000 أي ملايين من قطرت الدم في كل جزء من الثانية. فأية مفارقة هذه؟!..
لكأن قطرات الدم التي تراق من أجسادهم، على عتبات البيوت وفي أزقة الشوارع و باحات المساجد والكنائس والمدارس.. بفعل الآلة العسكرية الإسرائيلية التي بلغت ذروة مراحل الهمجية، ليست لدى قيادات النظام العربي سوى استعراض مبتكر عن كيفية مواجهة المخاطر برشاقة وخفة إلى حد الموت، أجاد ضحاياها كيفية التأقلم مع اللحظة التي يتم فيها تقطيع أطرافهم، وفقء عيونهم، ونبش أحشائهم، وسفك دمهم.. حتى يبرهنوا للجالسين على منصات الاستعراض مدى استعدادهم للتضحية في سبيل حماية عروش أسيادهم.
اندفعت الجماهير العربية إلى الشوارع، فراح أفرادها يهتفون منددين، شاجبين، لاعنين موقف زعيم ليس زعيما عليهم طبعا، بعضهم يبكي، وآخر يمزق ثيابه، وثالث يحرق راية العلم الذي أجج أصحابه براكين اللون الأحمر.. جاهلين أو متجاهلين أن كل هذا على أهميته وصدقه لن يؤدي إلى وقف نزيف الدم، ولا يمكن أن يرتقي بأي حال من الأحوال إلى قطرة دم واحدة من دماء أطفال غزة، وأن الكثيرين منهم ما إن يفرغوا شحناتهم المتأججة، سيهجرون الشوارع التي ألقوا على قارعاتها صدى هتافاتهم وتنديدهم وغضبهم واستنكارهم، ويعود كل إلى قوقعته الذاتية، بحثا عن حظ ما، عن نجاح ما، عن لقمة لأشياع جوع ما.. فتتلاشى الصيحات والهتافات ويغيب مشهد الجماهير عن الساحة تماماً، ويعود كل شيء إلى ما كان عليه كما هي العادة. ويعود الحكام العرب ليستريحوا على كراسيهم من جديد، مكرسين هواتفهم ومنابرهم لضمان استمرارهم في حكم شعوبهم، وتوريث عروشهم.
ومن هنا لا يمكن توصيف حالة المتفرجين على فاجعة الجريمة التي تحل بأبناء غزة، سواء كانوا شعوباً أو حكاماً إلا أنها حالة من ردة فعل على حدث يجري الآن، وبزواله تزول ردود الأفعال تلك، مهما ترك خلفه من آثار ونتائج، وفي أحسن الحالات يولد ردود أفعال جديدة، الكثير منها سيكرس تيئيس الشعوب، وسيزيد من الإحباط والانكفاء على الذات.. هذا ما خبرناه على مدى عقود من الحروب والكوارث التي تتالت على منطقتنا.
فالأولى بشلال الدم النازف، المسفوك في كل ثانية على أرض غزة، أن يدفع الجماهير العربية أولاً، وجماهير العالم ثانياً، إلى البدء في قلب المعادلة، وأن يجعلوا من تحركانهم زلزالاً ينذر بزوال عروش الحكام المتخاذلين، وسلاحاً يفتك بآلة الحرب الإسرائيلية، ويرغم قياداتها على وقف جرائمهم، وتنفيذ القرارات الدولية باستعادة ما اغتصبوه من أراضي وحقوق الغير.
هو ليس خياراً إعجازياً، بل هو أقرب إلى المنال حتى مما في قبضة اليد، فلتسلك الشعوب بدءاً من الآن بالإضافة للتظاهر والتضامن الضروريين؛ فعل اللا فعل، نعم.. التوقف عن أي نشاط يومي، الإحجام عن أي وسيلة من وسائل الاتصال، إيقاف وسائل النقل جميعها، الامتناع عن شراء أية سلعة وخاصةً الأجنبي منها، وغيرها من النشاطات الكثيرة والمتعددة التي لا يحتاج تنفيذها إلا إلى ضبط الإرادة وعدم الاكتفاء بإرهاق الحناجر في الصياح والهتافات والتنديد.. لو أن معظم من سيخرجون إلى الشوارع، وفي نيتهم أن يتظاهروا احتجاجاً، على ما يجري في غزة، قرروا معاً اتخاذ هذا اللا فعل ليوم واحد فقط في شوارع بلدانهم وأزقتها، لأحدثوا كارثة اقتصادية تهز أركان القرار الدولي وتهدد مؤسساته الرأسمالية بالانهيار التام. وعندها، سيسارع أصحاب القرار من زعماء وكبار مالكي رؤوس الأموال إلى اتخاذ موقف حازم جريء ضد همجية الآلة العسكرية الإسرائيلية، وإجبارها على عدم العودة إلى مثل هذا السلوك الهمجي..
هذا ممكن.. إذا وحدت الشعوب صفها وخيارها وإرادتها، وهددت بجعلها من هذا الفعل تقليداً دائما ورديفاً لغيره في مواجهة أي ظلم يقع على أي شعب من شعوب الأرض، أو أية قطرة دم تنز عن جبين طفل..