محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

ورحل الصديقان... العالِم وأنيس يطويان ثـمانين خريفاً من الحلم... والخيبة!!

ليس في الأمر مصادفة... ربما سيصعب علينا التصديق للوهلة الأولى، ولكننا سرعان ما سندرك أن هذا النوع من المفكرين يعرف جيداً كيف يجعل من موته حدثاً مليئاً بالدلالة والمعنى، مثلما كانت أحداث حياته، فالموت هنا موقف كما هي الحياة... محمود أمين العالم بعد عقود طويلة من العمل الفكري المضني، وبعد أن رأى وأدرك ما آلت إليه المشاريع والأحلام الكبرى، وسط مظاهر الخراب والتشظي التي تسود واقعنا السياسي والثقافي والاجتماعي، أغمض عينيه إغماضتهما الأخيرة، بحنكة فلسفية نادرة، ثم جاء عبد العظيم أنيس بعده بأيام معدودة، ليكمل المعادلة بخبرة عالم الرياضيات المحترف، وليرافق صديق عمره في رحلته الأخيرة، تاركاً لنا ذلك الشعور بالألم والحرقة الذي يعرفه  كل من يرى الفرسان القدماء وهم يترجَّلون. 

خمسةٌ وخمسون عاماً باتت تفصلنا عن العام 1954، عندما تجرأ مفكران شابان على تحطيم كل إيقونات عصرهما الثقافية، بعد أن استجمعا كل ما يملكان من جرأة وإقدام وفكر نقدي، لكي يصدرا من بيروت بيانهما الثوري الذي حمل عنوان «في الثقافة المصرية». هذا الكتاب-البيان قدم العالم وأنيس بوصفهما صوتاً جديداً في الثقافة العربية، يعلن تجديد (أو بالأصح تثوير) مفاهيم الفكر والنقد الأدبي العربي، وأنه لا حصانة  لأية مفاهيم أو شخصيات ثقافية أمام سيف النقد... من هنا بدأت رحلة الصديقين في ميادين الفكر والسياسية، والنضال الوطني والاجتماعي، تلك الرحلة التي جعلتهما يتنقلان بين مختلف المنابر... والمعتقلات!! 

يصعب علينا حقاً أن نجد مثالاً أكثر تعبيراً عن تاريخ الفكر اليساري العربي، بأكثر تجلياته قوةً وحيوية، من سيرة هذين الراحلين الكبيرين، فمنذ أربعينات القرن الماضي وحتى المطلع الحزين لقرننا الحالي، لم يتوقفا عن قول كلمتهما في مختلف القضايا الكبرى التي مرَّت على الساحة العربية، مما جعلهما علامةً بارزة للخطاب السياسي والثقافي اليساري بتقلباته المختلفة عبر المراحل الأساسية التي شهدتها تلك الفترة التاريخية المضطربة، من العهد الملكي بكل ما رافقه من هموم الاستقلال الوطني وانتزاع الديمقراطية، إلى فترة صعود الناصرية والمد القومي، مروراً بالانتعاشة اليسارية الوجيزة في السبعينات، ومرحلة الانهيارات الكبرى والردة الرجعية في الثمانينات والتسعينات، وصولاً إلى الفترة الحالية بكل تناقضاتها وضبابيتها.

وربما يثير تنوع عناوين المؤلفات التي نشرها الراحلان خلال تلك السنوات الطويلة، الكثير من الاستغراب والتساؤلات حول ماهية مشروعهما الثقافي، ومدى تخصصيته ونجاعته، فعناوين كتب العالم تراوحت بين «الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي» و«مواقف نقدية من التراث» و«هربرت ماركوز وفلسفة الطريق المسدود» و«الوجه والقناع في المسرح العربي المعاصر»، في حين جال أنيس في مؤلفاته بين مختلف القضايا مثل: «علماء وأدباء ومفكرون»، «قراءة نقدية في كتابات ناصرية»، «إصلاح التعليم أم مزيد من التدهور؟!». ولكن غياب التخصص والتركيز المعرفي في هذه المؤلفات لا يمكن رده إلى السطحية و غياب المشروع، أو إلى موسوعية مزعومة فات أوانها منذ زمن بعيد، بل إلى تركز المشروع الفكري لأنيس والعالم على هم أساسي ومحوري هو التنوير في مختلف المجالات والأصعدة، ضمن إطار مشروع وطني ديموقراطي شامل، يلخص آمال وأحلام جيل كامل من المثقفين العرب.

هل هَرمَ المشروع وفات أوانه؟! أم أنه بات بحاجة إلى لغة وعقلية جديدتين، وأدوات معرفية أكثر تطوراً؟ لابد أن مثل هذه التساؤلات قد جالت كثيراً في ذهن الرجلين في أيامهما الأخيرة، وبغيابهما المدوي عن ساحة الفعل الثقافي صار لرهانهما التنويري ولتساؤلاتهما الحائرة حضور أكثر إلحاحاً بين كل من ورث عنهما إلحاح الحلم ومرارة الخيبة. 

آخر تعديل على الثلاثاء, 29 تشرين2/نوفمبر 2016 00:58