مطبات: ذلك الأمان

ماضويون.. ربما، والتفاتة كسيرة تشدنا دوماً إلى الوراء، الذكريات، الزمن الذي تركناه خلفنا، وترَكَنا وحيدين في مواجهة اللحظة الراهنة متسلحين بالتذكر.

ماضويون لأن اللحظة التي انصرمت من عمرنا تتواجه مع واقع اللحظة الراهنة على النقيض، ونقف معها مشدوهين من الفارق، تلك أيامنا وهذا الألم.

نهاية الثمانينيات، امرأة في كامل ألقها تستطيع أن تغرق جيشاً من الرجال ليس بغمزة عين فقط أو رمشة من هدب طويل، امرأة بكامل حضورها الإنساني اللذيذ، امرأة تتحدث عن الشعر واللغة المقاتلة، وتغني لأولئك البائسين الحالمين، وثلة من غواة الكلام الممنوع.

في ذلك الوقت لم يكن (للبنطال) حضور كاسح للإغراء الذي يتشابه اليوم، كل الأجساد تتطابق لدرجة معرفتك بالتفاصيل الصغيرة عن الجسد المتهاوي أمام ناظريك بارداً وعادياً، كانت التنورة فسحة للخيال، واستراق النظر إلى جزء عار يثير الأمكنة والخيول التي تصهل في الشباب، وكان للعشق وقتها لغة مغموسة بالحياء، كنا شرقيين لدرجة الوثوب في الخيال على حلم امرأة محتشمة.

ازدادت الآن مساحة البرود، ثمة نساء كثيرات، إثارة طارئة، سراويل تحت الخصر، إباحية مضجرة، وسائل جديدة للإثارة لكنها ليست إنسانية، فجور تحركه المنشطات، ولحم يشبه الشمع، وفتيات لا يعرفن من الكلام سوى لغة التشظي خلف طاولات الكافيتريات الجديدة، والحدائق التي كانت موعداً مسروقاً، واللقاء في ظل شجرة في آب صارا... للسخرية.

كل شيء تغير، لم تعد وعود الرجال بمستقبل قادم يبنى درجة درجة يثير شغف شريكة مفترضة، ولا انتظار حالم أهم من رجل جاهز للدفع، ولا البيت الدافئ أحن من رخام بارد في (فيلا) بضواحي المترفين، والوطن فسحة استثمار، فرصة للرخاء.

على خطى إنساننا الذي تغير، تغيرت القيم، تساقطت قرابات ليست شرعية، الجوار، الصداقة، الزمالة، الوجوه التي تعرف بعضها بقرابة الشارع، الابتسامات المتبادلة تعبيراً عن الود دون مصالح، انهزمنا في جوهر أخلاقنا، وصارت تقربنا لغة المنفعة، المصلحة التي من أجلها نتعارف ونبتسم ونتصافح، من أجلها يمكن أن يجلس الأعداء مبتسمين، أن تنبض القلوب للطعنات، أن تباع الضمائر في سبيل رشوة من عابر بالكاد نتذكر لمسته، ونبرة صوته.

ثم جاءت المتغيرات االكبرى، مؤسسات منخورة بالفساد، منظرون للنهب بحجة الشطارة، فاسدون يتعالون بشرف الشعارات، مدراء على قدر كراسيهم وكروشهم، وخطط تنتظر خططاً، قرارات لا تعني أحداً إلا بقدر مصلحته فيها، مشاريع للبنية التحتية تلد بعضها وتتعارض لتحقيق الاختلاس بدافع العمل، تواقيع مدفوعة الثمن، أرصدة في البنوك بأسماء الزوجات والأولاد، والخدم، والمكان المناسب يبتهل لرجل يملؤه عن جدارة.

تقهقرت المعامل التي كانت أمان فقراء الوطن، أجهز عليها على الورق، لا يخلو يوم من خسارات لشركات القطاع العام قبل الأزمة وبعدها، تقارير وهمية عن إنجازات وهمية، ومخصصات على حساب الموازنة لإحياء ميت من موته، ومستقبل مجهول للعاملين الذين ظنوا أنهم أنجزوا انتصارات واستيقظوا على واقع البطالة.

سقط التعليم المجاني بضربة واحدة، وازدهرت مدارس الدفع، المدارس الخاصة، صار حلم الجامعة بعيد المنال لمن لا مال له، وقريب من أولئك المحصنين بقوة الليرة، التعليم المدفوع الثمن من روضة الأطفال إلى الدكتوراه، التعليم الذي في النهاية مقدر لمن لأبيه شركة، أو كرسي كبير، أو واسطة لا ترد، أما فقراء الجامعات الحكومية، ومدارس الدولة سينتظرون منة المسابقة الرسمية، أو فرصة لا تتكرر لوظيفة خارج الوطن.

توحشت الشوارع الأمامية والخلفية، بالأحرى صارت كلها شوارع خلفية، عدا الشوارع الهادئة الخالية من المارة والذين ينتعلون الأحذية، زمر من العاطلين في مناطق المخالفات، قطيع من المتشردين الباحثين عن بيت يسلبونه، عابر ينتشلونه، وربما جريمة من أجل مئات الليرات، اتسعت رقعة الجريمة، الفقر الذي أطاح بالحكمة والعقل، الفقر الذي يدفع الغريزة للانتصار من أجل البقاء مهما كان الظلم الواقع، من أجل علبة دواء، زجاجة حليب، ربطة خبز، لذة مستوطنة.

الأمان ذلك البيت الذي لا خوف فيه، ولا يد آثمة تنال من سكينته، الأمان المفقود المبرر، من أين يأتي من لا عمل له ولا أمل بما يملأ الجوف، من أين لاقتصاد لا يرى سوى من هم في الواجهة، في الضوء، من أين له أن يدفع الروح إلى الهدوء واليد إلى ألا تتطاول على غيرها، من سوف يحمي جموع العاطلين من الذهاب في الرذيلة أو الجريمة كحل نهائي.

الأمان لقمة في فم جائع إن فقدت.. صارت سكيناً في يد مجرم.

 

آخر تعديل على الإثنين, 01 آب/أغسطس 2016 21:15