دعوة إلى شخير جماعي
هل الكتابة هي لحظة غضب؟
يهيأ لي أن أية كتابة تخلو من الغضب هي كتابة نافلة، ولا تقول شيئاً، سوى أنها تعيد إنتاج الواقع على نحوٍ أسوأ، ذلك إننا حين نستعيد خزانة الكتب، أو تاريخ التدوين، نتوقف عند محطات أساسية، تركت جرحاً لا يشفى في الذاكرة، فيما ذهبت أطنان من الكتب السلطانية أدراج الرياح. الغضب هنا لا يأخذ بالضرورة موقع المواجهة فحسب، بل حرث اللغة وتقليب تربتها من موقعٍ مغاير. ثمانية وعشرون حرفاً فقط، قادت أعناقاً إلى المقصلة، وأطاحت بديكتاتوريات، وهدهدت أسرّة ومخدات وملاءات. هكذا عبر بيت من شعر المتنبي مثلاً وهاداً وأزمنة وبرازخ، وبقيت ملحمة جلجامش المكتوبة على رُقم طينية باللغة المسمارية، مثل كنز، وسافرت «ألف ليلة وليلة» بين القارات السبع، لتأكيد غواية الحكي، وأسرار السرد والتخييل الخلاّق. لم تتوقف إذاً معركة اللغة على الإطلاق، فكلما خضعت للإنشاء والموت التدريجي، تنفض أجنحتها من الغبار وتحلّق عالياً إلى فضاءات بعيدة، لتحط على مخدة العقل والعاطفة بآن معاً، وكأن ما كان ينافح عنه ابن رشد، يجد صداه لدى ابن حزم من ضفة أخرى، وما كان يهمس به بدر شاكر السياب، يعلو صخبه عند نزار قباني، أو محمود درويش، وما كان يتلمسه سعدي يوسف، كان يهتف به محمود درويش. اللغة صوت في برية، وأوكسجين يوسّع القضبان في زنزانة ما هو عادي وعابر ومهمل. جملة واحدة قد تقود إلى التهلكة، وأخرى قد تقود إلى النجاة. كان الشاعر القديم أو صاحب الحكمة يقف على مسافة واحدة بين حد سيف الوالي أو كيس دنانيره: هناك عبارتان فقط عليه الإنصات إليهما: اقطع رأسه يا سيّاف، أو.. عفونا عنك!
قد تبدأ صباحك بكلمة حب، أو بشتيمة، بمكافأة أو فاتورة للدفع. المسألة لغوية فحسب، تتعلق بتشكيل الحروف وانجدالها على نحوٍ مبتكر، وهكذا تتسع المسافة بين الإسفاف والإبداع. لكل منّا إذاً معجمه، وأمثولته الخاصة، وعباراته المفضّلة التي يتأبطها مثل تعويذة كي تحميه من التلف.
الغضب اللغوي في إحدى مراياه هو تمرّد وكشف وابتكار، وعلى جسر هذه الفكرة على الأرجح، عبر ماركس وفرويد، وابن خلدون، وسرفانتس، وشكسبير، وطه حسين، إلى آخر القائمة، وما عدا ذلك هو مجرد قشور أو حراشف على جلد تمساح يتثاءب في بحيرة مغلقة.
اليوم نعيش لحظة تراكم لغويّة، وحالة لفظية تفتقد الرنين والإيقاع، وبات من النادر، أن نتوقف عند جملةٍ مفيدة، تدير أعناقنا، أو تخفق لها الأفئدة، وكأن بحر اللغة المتمردة والمارقة والمتفلتة من المعايير المستقرة، قد جفّ، تحت وطأة الإسهال اللغوي الإنشائي السقيم... كلام يعاد إنتاج بريقه، لكنه عند أول اختبار يسقط في بئر الصدأ، سواء لجهة الصدق، أم لجهة البلاغة والتخييل.
في الندوات الأوروبية المتخصصة، يُمنح المتحدث (12دقيقة)، ليقول شهادته، أما عندنا، فإن المتحدث، يتكلم ساعة، من دون أن يقول شيئاً مفيداً، وفوق ذلك، يضيف: في هذه العجالة، سأتحدث عن........................ (شخير جماعي).