في النَّكِرة وأحواله.. مشاهد من حياة ثقافية ركيكة
ليس النكرة شخصاً مغموراً بالضرورة، فالديوث، مثلاً، نكرة من حيث تركز شخصيته برمتها في ديوثيته وحدها واقتصارها عليها، لكن ذلك لا يلغي أنه معروف مثل علم على رأس زوجته نار.
بل إن النكرة قد يكون نوعاً من الصحفي، يقبع خلفك في ندوةٍ ما، يتصيد كلمة شاردة من كلماتك أو نأمة عابرة من نأماتك، فلا تشعر به إلا وهو ينقض على عقبك أو كعب حذائك، على هيئة مقالة صحفية يحدد فيها أصدقاءك وما يكنه قلبك ومعاني إيماءاتك، دون أن تكون قد بادلته كلمةً في أي يوم، ودون أن يعدم غبياً ينشر له مثل هذي السفاسف.
والنكرة ـ أجل ـ قد يكون مؤلفاً لكتاب أو منظماً لندوة، ويحاول ألا يدعو إلى هذين الحدثين ـ اللذين يعدهما فرصتين أو وليمتين ـ سوى أشباهه وأتباعه، فهو يخشى الاختلاف والتغاير والمنافسة، لأنه هزيل، صغير، أحادي على نحو موحش، ليس الآخرون بالنسبة له سوى نوع من الخطر الذي قد يكشف المعدن الذي قدّ منه: معدن النكرة.. وقد يكون النكرة روائياً يقتصر الفن والتخيل بالنسبة له على كونه فرصةً للانتقام من بشرٍ فعليين لا يفوت فرصةً في تنبيه القارئ إلى هوياتهم المرجعية، فهو يخشى من أية مواجهة واقعية ويفضل المواجهات التي تدور رحاها على الورق حيث يمكن له أن يفتك بمن يشاء، وحيث يمكن له أن يحول الكتابة إلى ذلك الشيء الذي يؤدي ما يؤديه الحلم: تحقيق رغبة لا سبيل إلى تحقيقها في الواقع.
والمرء لا يولد نكرة، بل يصير كذلك، فلا بد من صيرورة تسفر عن تحول امرئ ما إلى نكرة، كأن يكون في بدايته ربع شاعر، ويكتب عنه معجباً نصف شاعر، أو خائفاً من بذائته ثلث ناقد، فيصيب بذلك شيئاً من الشهرة، يسندها بقدر كبير من التهريج وإضحاك عليّة القوم من مكانه في طرف المائدة، يسندهما بقسط وافرٍ من الوطاوة المباغتة والجرأة الوقحة. لكن ذلك لا يلبث أن يتبدد، مع إخفاق النكرة كشاعرٍ أو زوج أو صديق، ليظهر الجاهل وعديم الموهبة على حقيقته: نكرة.
ولابد لصيرورة المرء نكرةً ثقافيةً من سياق: ركاكة الواقع الثقافي وضحالته وابتذاله، حيث تغيب الجدية، وتغيب قيمة العمل، بل يغيب كل حدً يميز ويضفي قيمةً، كما يغيب كل محك للتقويم وكل معيار. لا يظهر النكرة في بيئة تزدهر فيها وتتعمق قيم القراءة والكتابة والصحافة الحقة والحوار وأهمية التجربة، لابد لظهور النكرة من سياق راكد ومن استنفاع عام، ليس النكرة سافلاً وحسب بل ابن الحمأة أيضاً، مما يدل على أن الذنب ليس ذنبه وحده..
والنكرة إذا ما أتيح له منبر، سخّره للتعريض والشتم الشخصييْن اللذين يحاسب عليهما القانون بالفعل، فلا حد أخلاقياً أو قانونياً يمكن للنكرة أن يقف عنده، وهو يعرفك أكثر مما تعرف نفسك، ولا يتردد في أن يقول عنك ما يشاء. هذه حاجة وسواسية لديه، لأن ما من فرصة لأن يتساوى مع الآخرين سوى بإنزالهم إلى عنده وجعلهم على قده، ولذلك تجد ذمته واسعةً، ومسارعته إلى الانقضاض أشبه بمسارعة اللص الذي لن تتاح له فرصة أخرى.
إذا ما شتمك نكرة لا تسارع إلى الغضب، بل تأمل أخطاءك قبل كل شيء فإذا ما تأكد لك أنه مجرد معتدٍ ليس غير، ابتسم، وادع الله أن يكثر من أمثاله، ذلك أن ثمة أصواتاً تحتاجها قافلتك كيما تسير..