الراحلة ألفريدة يلنيك في روايتين: لا بد من نظافة لهذا العالم
توفيت الكاتبة النمساوية الكبيرة ألفريده يلنيك الخميس قبل الماضي عن 63 عاماً، الحائزة على جائزة نوبل للآداب في العام 2004، هنا مراجعة لاثنتين من رواياتها المهمة والمترجمة إلى العربية.
معلمة الموسيقى في عازفة البيانو تخاف أن يفوتها قطار الرجال، وهي تتقدم بالسن محاطة بأم متسلطة، مهووسة بامتلاك ابنتها، واستثمارها، وإبعادها عن ذلك القطار المشؤوم، قطار الرجال مثيري الشغب والمتاعب، تريدها أن تستغني عنهم، وتكتفي بأمها وبالموسيقى لا كفنٍ مالئٍ للحياة، بل كوسيلة برجوازية لعيشها، ووقاية في وجه ذكور يهددون كبتها المؤسس الراسخ. وهنا تقاطع مع السيرة الذاتية لالفريدة يلنيك ، الحائزة على نوبل سنة (2004).
يظهر ذكر يهدد هذه السيطرة، طالب حيوي نشط من طلاب المعلمة. يحرضها على الالتفات نحو المرأة المهجورة فيها، ويزعزع تماسكها المزيف، يغريه نصفها السفلي المليء الراغب بالتمرد، ونصفها العلوي المتمترس بالخوف. يراها كائناً من نصفين متناقضين، جديراً بغزوة ومن غير تهور، لا يضطر رجل قوي إلى التهور في لعبة سهلة كغزو امرأة ضعيفة. فالقوة تطمئن لكنها حين تخفق ولو مؤقتاً في مظهر فيزيولوجي كالانتصاب يخرج الغازي عن طوره وتُتهم المرأة. لأنها لم تفهم سيدها أو ضللته، فيثأر السيد في مظهر آخر من مظاهر القوة والسيادة.
يشرع الطالب في إذلال معلمته ويوسعها ضرباً وإهانة، ليس تلبية لرغبتها المبثوثة في الرسالة بالتعذيب المتخيل كطقس جنسي قوامه قسوة مشتهاة وتطلب حسي لم تعرف عنه شيئاَ في سنوات كبتها الطويل، بل انتصاراً لذكورته المخفقة وعندما يكتمل هذا النصر يمضي الطالب تاركاً المعلمة في خرابها الكبير، وتسمح الأم لها أخيراً بالخروج من الشرنقة وتنصحها بمواعدة الرجال.
في النهاية تذهب المعلمة لتنتقم. تحمل سكيناً وتقف بعيدة عن الطالب. تراقب مرحه ورضاه على نفسه، وبدلاً من أن تقدم وتنال منه تنكفئ مرة أخرى وأخيرة على نفسها وتغرس السكين بلحمها كما تعودت. وترجع والدماء تسيل منها، كبديل عن سيلان رغبة لم يتحقق في قدر بائس، وعلاقة ظالمة تقع المرأة فيها في الأسفل، وهي العلاقة ذاتها التي ترتبط بها المرأة في رواية «العاشقات» بالرجل، حيث تبرز بطلتان ريفيتان، باولا وبريجيته، تفضح بهما الكاتبة المرأة والرجل والمجتمع، حيث تعثر كل منهما على واحد. هاينتس فني الكهربائيات الطامح بالصعود عبر مهارته العملية ورغبته بالاقتران بسوزان، الفتاة البرجوازية ذات القلب المرهف التي تتسلى بالريفيين دون أن تنشغل بهم. تشعر بريجيته بالغيرة نحوها مما أسعد هاينتس كونه مرغوباً فيه ولا يرغب، بريجيته سهلة ومتوفرة، لكنها لا تناسب صعوده المرتقب. تتشبث به وتستميت للحصول عليه رغم اشمئزازها من جسمه الأبيض السمين، لكنه أمل، وهو أملها الوحيد.
باولا لديها أمل أيضاً، وإن كان تافهاً وأبله وعديم قيمة كالحطاب إيريش، فهو بالنهاية رجل، ويقدر أن يحوز على قيمة، إن تمكن من ملء بطن فتاة بجنين. تنتفخ باولا وترفض إلحاح أمها على الإجهاض، وتتمسك بالجنين لتحصل من خلاله على إيريش.
ترى بريجيته في الجنين الذي تأخر سبيلاً إلى هاينتس، العازم على الزواج من سوزان الراقية، و لا تلتفت هذه إليه لأنها محكومة بوعي طبقتها، فتبحث عن زوج وصانع للأجنة في تلك الطبقة.
تأتي لذة القارئ مع اقتراب النهاية وتدوم بعدها، لأنه تمتع بغير ثلاثية الحكاية والسرد واللغة، تمتع بالكشف، كشف الخفايا الذي برعت به الكاتبة، وسبر الأغوار وصولاً إلى مركز الثقل، والقبض عليه مع الإحاطة بوعي هذا المركز الغائر خلاله وفيه. فيبدو غير حصين بوعي مضطرب ومخاتل يقابله وعي ذكوري هانئ متفوق سلفاً، يدرك ذاته ويتنعم بها فأنا رجل أنا سعيد وغير قلق. تكتمل القباحة كشفاً وراء كشف في الرواية، وتقريراً إثر تقرير، وفق نمط سردي مدهش يغري بالتوقف عنده. وتكتمل الحقيقة أيضاً وتتقاطع مع الرؤية النيتشوية المذهلة، مع اختلاف في التقبل. فما يراه الفيلسوف العظيم في علاقة الرجل بالمرأة مرحاً وبناءً ومطلقاً وفوق التاريخ. تراه الشيوعية السابقة الفريدة يلنيك حصيلة ظالمة لعهود القهر يجب تغييرها للوصول إلى المساواة.
يبدو الشك جلياً في مصيري العاشقتين حيث تتزوج بريجيته من هاينتس وتحصل على أطفال ومنزل، وتتزوج باولا ايريش بأطفال ودون منزل، فتسعى لذلك، لكن ايريش يبذر النقود في الحانات. تريد لسيادة ايريش عليها أن تكتمل باقتناء مكان لممارسة هذا السيادة، لكنه لا يبالي بذلك. فالمرأة نفسها غير مهمة (ولا تعادل ربع زجاجة خمر) كما تعلق الكاتبة. لأنه أي ايريش أبله وناقص الرجولة من حيث تخلى عن حقه في الاستعباد الكامل لباولا. وهي لا تتخلى عن هذا الواجب الممتع ولا تجد وسيلة للقيام به إلا من خلال جلب النقود (بمضاجعة الغرباء في سيارتها) لشراء منزل، ويتبدد حلمها بأن تكون عبدة كاملة المواصفات بسبب الفضيحة، فيطلقها ايريش.
بريجيته أوفر حظاً من باولا فعبوديتها مكتملة الشروط، زوج وبيت وطفل، أو سيد ومملكة وعمل، مما يجعل منها عبدة نموذجية تفوح منها رائحة الطبخ والطاعة والإنجاب ، فتخدم في مملكتها، تنظف وتنظف ولابد لهذا العالم من نظافة.